شعب يستحق هذا القائد.. وقائد يستحق هذا الشعب!

TT

الشعور الذي راودني وعجلات الطائرة، التي كنت أحد ركابها وجاءت بي من عمّان في الأردن، بدأت تلامس أرض مطار مسقط، هو أنني آتٍ الى هذا البلد في أوَّل زيارة، كي أعتذر عن مواقف وقفتها في سنوات النَّزق اليساري والمفاهيم القومية الخاطئة عندما كنت أحد المتحمسين أكثر من اللزوم للثورة التي صُدِّرت الى عُمان من الجنوب والتي حملت اسم «ثورة ظفار»، وكان يراد لها ان تُعممِّ تجربة اليمن الجنوبي الماركسية ـ اللينية الفاشلة في عموم الجزيرة العربية.

لم يكن معظم الشباب العرب الذين هم في عمري، في ذلك الحين، يعرفون عن عُمان سوى ما يُقال في الإذاعات المغرضة، وما يكتب في الصحف التي كانت متخصصة في ليِّ أعناق الحقائق، وما دأبت على ترويجه بيانات الأحزاب والقوى التي كان قادتها، بمثابة زوار دائمين لـ«عدن الثورة»، ويستمتعون بخيراتها الشحيحة على حساب لقمة خبـز الفقراء واليتامى والخاوية بطونهم.. وأبناء السبيل من أبناء هذا الشعب المغلوب على أمره.

أكثر من مرة جلسنا، الدكتور أحمد الربعي وأنا، نتذكر تلك المرحلة ومعطياتها وخيباتها، وكنا في كل مرة نخلص الى التسبيح بحمد الله العلي القدير ألف مرة، لأن ثورة ظفار انتهت الى ما انتهت إليه، ولأن كل المحاولات الانقلابية في الدول العربية، التي كانت تعتبر محافظة ورجعية وعميلة للغرب الامبريالي، قد فشلت وحُرِمَ ضباطها وجنرالاتها من ان يصلوا الى ما وصل إليه زملاؤهم في الجمهوريات العربية السعيدة التي تحولت الى ممالك، ولكن بملوك ليست لديهم لا كفاءة ولا سماحة ملوك الأنظمة الملكية.

.. وعجلات الطائرة، التي كنت أحد ركابها والتي أمضت نحو ثلاث ساعات وأكثر بين عمَّان وعُمان، بدأت تلامس أرض مطار مسقط استرجعت شريط ذكريات طويل، وتذكَّرت كيف أن بعض ابناء جيلي، وأنا منهم كانوا مخدرين بما حُقنوا به حقناً، من كتابات صحف منحازة وتعليقات إذاعات موجهة، وكانوا لا ينظرون إلا من زاوية واحدة ولا يرون إلا لوناً واحداً، وبهذا فإنهم ظلموا رجالاً عظماء، من بينهم السلطان قابوس. هؤلاء كانوا يعملون بصمت ومثابرة، فبنوا أوطاناً كانت متعبة، وحققوا إنجازات كانت تعتبر مستحيلة، بينما أولئك المتحاملون انتهوا الى الإحباط، فعادوا لمراجعة كل شيء، والبدء من نقطة الصفر، لأن العودة الى نقطة الصفر، تعتبر في بعض الأحيان فضيلة.

منذ اللحظة الأولى التي وصلت فيها الى مسقط، بدأت بمقارنة ما سمعته وقرأته عن وضع هذا البلد قبل ثلاثين عاماً ووضعه الآن. ومنذ اللحظة الأولى أدركت انه عندما تتوفر للتجربة المبنية على أسس ومعطيات صحيحة قيادة واعية وحكيمة، فإنها تتحول الى معجزات. والحقيقة ان مسيرة ثلاثين عاماً في عُمان، تحولت بنتائجها وتبلوراتها الى معجزة لا يمكن ان يدرك أهميتها وحقيقتها إلا من يأتي الى هذا البلد بقلب سليم، وينظر الى الإنجازات التي تحققت من زاوية غير زاوية مراحل المراهقة السياسية، والطفولة اليسارية، والانحياز الأعمى لشعارات لا هي واقعية ولا هي منصفة.

كانت عُمان قبل ثلاثين عاماً فقط بلداً منهكاً تعباً، وذلك مع أنها كانت حتى منتصف عقد أربعينات القرن الماضي تعتبر امبراطورية عظيمة بقوتها العسكرية وباتساع رقعتها الجغرافية، وأيضاً، وهذا هو المهم، بإشعاعها الحضاري، وبتجارتها وبإيصال تجارها المبدعين الدين الإسلامي العظيم وتعاليمه الخيـِّرة الى أبعد مكان في الشرق البعيد، وإيصال «لبانها» الخالد الى أهم قصور الغرب في العصور الوسطى وقبل ذلك وبعده.

تحولت مسقط في غضون سنوات تعد على الأصابع، من مجرد قلعة محاطة ببعض البيوت المتهالكة، وتلتصق بالبحر كأنها تحتمي به من غضب الجبال المنتصبة حولها كرماح اسطورية وخرافية الى إحدى أكثر عواصم العالم أناقة ورقة، والشيء الذي يجلب الانتباه هو أن ثورة الإعمار في العاصمة العُمانية، وفي كل مدن عُمان لم تفرِّط في الهوية المعمارية الوطنية الأصيلة، ولا بما حققه البناة الأوائل المبدعون والشجعان.

كل شيء في عُمان يدل على ان التاريخ متواصل ولم يتوقف، وكل شيء في عُمان يشير الى ان تطورها في كل المجالات طبيعي وغير مفتعل، وكل شيء في عُمان يدل على ان حاضرها لا يخجل من ماضيها، وكل شيء في عُمان يدل على أنها لا تبحث عن دور أكبر من حجمها هي غير مؤهلة له، كما يحدث بالنسبة لبعض دول المنطقة التي استفاقت، في صباح أحد الأيام، على كنـز لم تكن تتوقعه فأصيبت بعدم التوازن والهستيريا، وأخذت تعتدي حتى على عابري السبيل لتشعرهم بوجودها وبأنها تلبس حلةً جديدة.

لم تسلم عُمان من شرور مراحل العواصف القومية واليسارية في عقود خمسينات وستينات القرن الماضي، وبقيت مرابطة في منطقة كانت استراتيجية ومهمة، وبقيت كذلك، وهي الآن تشكل نموذجاً للاستقرار والتوازن ومواصلة العمل والبناء بصمت ودأب، فعلاقاتها مع القريب والبعيد راسخة وبعيدة عن الخضات والتشنجات، وهي تتبع نهجاً سياسياً ثابتاً جعلها تحظى باحترام حتى الذين يختلفون معها، وجعلها بدون أعداء وبأصدقاء لا يمكن عدهم ولا حصرهم.

الآن يواجه عُمان تحديان خطيران، أولهما، التصعيد المستمر بين إيران والولايات المتحدة، واحتمال ان يتحول هذا التصعيد في أي لحظة الى مواجهة عسكرية بأسلحة غير تقليدية، وثانيهما، الأوضاع المزعزعة في الصومال الواقعة على الجهة الأخرى من شواطئ بحر العرب في إفريقيا الشرقية. هذا كله بالإضافة الى تحديات ما يجري في العراق وفلسطين والسودان ولبنان. لكن ورغم التحديات، فإن هذا البلد، بقي مرابطاً عبر كل مراحل التاريخ، في أخطر موقع جغرافي، يواجه ما يجري حوله وأمام أبوابه بهدوء أعصاب، ورباطة جأش وبمواصلة مسيرة العمل والبناء وعلى أساس: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً».

تطل عُمان على الأزمة النووية المتصاعدة بين إيران والولايات المتحدة من أقرب نقطة ومن أخطر موقع على مضيق «هرمز»، وهي بالتأكيد ستكون أكثر الدول تأثُّراً في حال وصل العد العكسِّي بين الإيرانيين والأميركيين الى لحظة الانفجار. لكن ومع ذلك، فإنها تبدو غير متوترة الاعصاب، وغير مصابة بالهلع، بينما علاقاتها بطرفي هذه المشكلة متوازنة. فالمسافة بينها وبين كل طرفٍ من هذين الطرفين متساوية، وهي تحرص على ألا تقترب من أي منهما على حساب الآخر.

لا يشعر القادم من مناطق العواصف والدول المزنرة بالنيران والأزمات من كل جانب، بأن عُمان متوترة، فكل شيء يجري بهدوء، والعُمانيون الذين لا يقلون عن العرب الآخرين عروبة والتزاماً قومياًً والتصاقا بالمأساة العراقية والفلسطينية والصومالية والسودانية، واقترابا من الهموم اللبنانية والسورية، يبدون في غاية السكينة والاسترخاء والمؤكد ان كل من يريد أن يبحث عن تفسير لهذا، سيجده في الحكمة القائلة: «الناس على دين ملوكهم».

لا شرطة في الشوارع ولا دبابات ولا أي مظاهر عسكرية وصور السلطان قابوس لا يمكن رؤيتها إلا في الأماكن التي من المفترض ان تكون فيها، وشوارع مسقط وساحاتها مطرزة بألوان أجمل الورود والأبنية تبدو رشيقة ومتناسقة، والجامعات والمدارس تنبت في كل زاوية وكأهم دلالة على ان هذا البلد، الذي هو بلد القلاع والقصور التاريخية، قد دخل مع بدايات عقد سبعينات القرن الماضي مرحلة شبابية جديدة، وأن هذه المرحلة تتقدم بثبات وهـدوء وسلامة، وذلك من دون ان تقطع الصلة مع هذا الماضي العريق والتليد والجميل.

من صلالة في الجنوب وحتى النقطة المطلة على مضيق هرمز ومن مسقط حتى أعلى ذروة في الجبل الأخضر، الذي يصل ارتفاع أعلى نقطة فيه الى نحو ألفين وثلاثمائة متر عن سطح البحر، تبدو عُمان كخلية نحل أو كمملكة نمل. فالكل يعمل وكل واحد له دوره، والعُمانيون كرماء وطيبون وهم في حقيقة الأمر يستحقون هذا القائد، الذي يعمل بصمت وروية وبعيداً عن الزوابع الاستعراضية والذي يفرض احترامه واحترام بلده على كل أهل الأرض وعلى كل دولها، بينما ان هذا القائد يستحق هذا الشعب الطيب المتمسك بماضيه والفخور بحاضره والمصر على الانتقال ببلده من واقع العصور الماضية الى واقع المستقبل الواعد على طريق المسيرة الكونية الحضارية.