المشكلة النووية الكورية والحل المرتجى

TT

تجري مفاوضات في مكانين مختلفين، يفصل بينهما آلاف الأميال، من المحتمل ان تحدد النتائج المنبثقة عنهما، مستقبل النظام العالمي. ففي بكين تتفاوض كل من الولايات المتحدة والصين وروسيا واليابان والكوريتان حول البرنامج النووي لكوريا الشمالية. وفي فيينا تلتقي من حين لآخر مجموعة الثلاث (ألمانيا وفرنسا وبريطانيا) مع مفاوض ايراني لمناقشة الجوانب المتعلقة بالبرنامج النووي الايراني. ويمكن القول ان الدبلوماسية الكورية ربما باتت في طريقها الى تحقيق تقدم، إلا ان المحادثات بشأن البرنامج النووي الايراني لا تزال تراوح مكانها، ولم يجر التوصل بشأنها الى شيء.

البرنامج النووي لكل من ايران وكوريا الشمالية مختلفان. فكوريا الشمالية تؤكد على عملها في برنامج لإنتاج اسلحة نووية وأجرت بالفعل تفجيرا نوويا تجريبيا. اما إيران فلا تزال تصر على ان الهدف من برنامجها النووي اغرض سلمية في الأساس ولم تدع ان قدراتها في هذا المجال جعلتها قادرة على انتاج اسلحة نووية.

إلا ان ثمة قضية اساسية مشتركة فيما يتعلق بمسألة كوريا الشمالية وإيران على حد سواء. إذا ان الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن، بالإضافة الى ألمانيا واليابان، اذا لم تنجح في حث كوريا الشمالية وإيران على قبول التوصيات ذات الصلة بهذه القضية، فإن عمليات التخصيب ستستمر بنشاط ومن دون توقف وسيصبح العالم على حافة كارثة.

المفاوضات مع كوريا الشمالية وإيران أثارت مجددا الجدل الطويل بشأن ما اذا يجب ان تعمل الدبلوماسية بقواعدها وأحكامها الخاصة، ام ينبغي ان يكون دافعها نابعا من إقامة توازن بين الضغوط والمحفزات. لذا فإن محمد البرادعي رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية، عبر عن شكوكه ازاء جدوى فرض عقوبات ضد كوريا الشمالية، مفضلا استخدام الدبلوماسية بدلا عن ذلك. كما ان وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، رفض تأييد المسودة الأوروبية للعقوبات ضد ايران، مستندا في موقفه هذا إلى اساس ان الضغوط ستعرقل فاعلية الخيار الدبلوماسي.

إلا ان الضغوط، أي محاولة فرض قرار لم يختره الطرف الآخر في الأساس، عنصر ضروري في أي مفاوضات تقريبا. الدبلوماسية ليست «سمنارا» أكاديميا، وإنما امر يتعلق في الأساس بالنظر الى المصالح الوطنية الحقيقية والنظام العالمي. اذا لم تنجح العقوبات في تغيير موقف كل من كوريا الشمالية وإيران، ما الذي يمكن ان يغير موقفهما اذن؟ وما السبيل الآخر لغلبة قرار الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، بالإضافة الى ألمانيا واليابان، اذا لم يكن من خلال توضيح العواقب المترتبة على التعصب في وقت تبدي فيه كل من ايران وكوريا الشمالية تعنتا واضحا؟ يمكن القول هنا إن مبدأ شعار تيدي روزفلت، يعبر عن هذا الواقع تماما.

الجدل بشأن تغيير الأنظمة ألحق تشويها بالنقاش الدائر حول هذا الأمر. فالولايات المتحدة دخلت المفاوضات مع كل من كوريا الشمالية وإيران بموقف قائم على اساس تأييد موقف الأطراف الاخرى التي تعمل معها بالوكالة، لكنها لم تجر محادثات بصورة رسمية مع دول «محور الشر»، الذي حاولت ان تضرب عليه عزلة دبلوماسية. وبما ان هدف المفاوضات هو اتفاق من المفترض تنفيذه بواسطة الأطراف المعنية، لا يمكن ان تنجح الدبلوماسية اذا سعى واحد من الأطراف لإطاحة الطرف الآخر. وهذا هو السبب الجوهري الذي حمل إدارة بوش على تغيير ترتيب اولوياتها، وتصرفت بوسائل عملية فصلت الانتاج النووي عن الأهداف الطويلة المدى لتغيير النظام.

لم تعد القضية تتعلق بما اذا كانت الولايات المتحدة على استعداد للتفاوض مع كوريا الشمالية وإيران، وإنما اصبحت تتركز على اختيار الأطر التي يجب اعتمادها وتحديد الأغراض المطلوبة. المفاوضات مع كوريا الشمالية وصلت الى طريق مسدود على مدى سنتين وذلك لسببين رئيسيين. يكمن السبب الأول في ايديولوجية تغيير النظام الذي تعتبر مصالحه الوطنية محدودة للغاية فيما يتعلق بالتخلي عن المشروع النووي، الذي ظلت بيونغيانغ تعمل على تطويره على مدى عقدين من الزمن وربما أكثر. وأخضعت كوريا الشمالية مواطنيها خلال هذه الفترة للجوع والفقر. المحفزات التي قدمتها الأطراف المفاوضة الخمسة، تركزت على تحسين مستوى المعيشة المتردي هناك، واعتمدت في ذلك على عالم خارجي لا تثق به بيونغيانغ اصلا.

يمكن القول هنا ان كوريا الشمالية اتبعت استراتيجية تقوم على اساس إحداث انقسام وسط الدول الخمس، وذلك من خلال السعي الى التفاوض المنفصل مع كل طرف على حده، مع التركيز على الولايات المتحدة. وهنا لا يمكن القول انه من مصلحة الولايات المتحدة جرها الى موقف تتحمل بمقتضاه العبء الكامل للمفاوضات، وتحمل مسؤولية فشلها، فضلا عن المسؤولية الكاملة عن فرض اتفاقية محتملة او إثبات جدواها.

السبب الثاني يمكن تلخيصه في ان الطريق المسدود الذي وصلت اليه المفاوضات، إلى حين إجراء كوريا الشمالية تجربتها النووية الأخيرة، جاء نتيجة لعدم وجود موقف موحد بصورة كافية بين الأطراف الأخرى على نحو يسمح للمجموعة بالتغلب على تعنت بيونغيانغ من خلال استخدام سياسة متوازنة.

كوريا الجنوبية هي الطرف الأكثر أهمية في هذه المفاوضات، إلا ان موقفها يعتبر ايضا الأكثر تقلبا. من الواضح ان لديها اجندتها الخاصة بالوحدة مع جارتها الشمالية على نحو تدريجي، يضمن معالجة النتائج الاقتصادية المترتبة على الوحدة ويحمي مصالحها الوطنية. وباعتبار مجموعة من الأسباب لا تزال كوريا الجنوبية رافضة مبدأ تطبيق عقوبات على كوريا الشمالية، ربما بسبب اعتقادها ان كوريا الشمالية في طريقها الى الانهيار بالفعل، ولذلك لا ترغب في ان تعاقب سيول من تعتبرهم مواطنين.

تركيز روسيا فيما يتعلق بالحد من الانتاج النووي يتركز بصورة رئيسية على ايران، اما فيما يتعلق بكوريا الشمالية، فإنها ستقف على الأرجح الى جانب أي موقف توافق عليه اليابان والصين والولايات المتحدة، وهذه بالطبع أطراف رئيسية في هذه القضية.

اليابان من جانبها تعتبر مهددة باعتبار عاملي الجغرافيا والتجربة، خصوصا أن كوريا الشمالية سبق ان أطلقت صاروخا فوق جزر تابعة لها. لكنها لم تتردد في تطبيق عقوبات على بيونغيانغ من جانب واحد، فور التفجير النووي التجريبي الأخير لكوريا الشمالية، كما انها ستؤيد بالتأكيد أطراف اخرى في إطار محدثات بكين.

ما يمكن قوله هنا هو ان السبيل الرئيسي لتحقيق تقدم في هذه القضية يتخلص في ضرورة التعاون بين الصين والولايات المتحدة. إلا ان الصين لم تكن راغبة في الضغط على كوريا الشمالية، ليس بسبب ادعاء البعض بأنها غير مبالية إزاء حيازة بيونغيانغ لأسلحة نووية أو أن لها مصلحة في شعور الولايات المتحدة بالقلق، وإنما بسبب ان الصين لها مصالح في شمال شرق آسيا اكبر بكثير من مجرد وقف المشروع النووي لكوريا الشمالية.

مهما يكن من أمر، ساعد التفجير النووي التجريبي الأخير لكوريا الشمالية على تقريب الصين والولايات المتحدة اكثر. فالولايات المتحدة قبلت ضمنا واقع ان قضية الاسلحة النووية والتطور الداخلي لكوريا الشمالية يجب ألا يكون ضمن أجندة نفس المفاوضات. اما الصين، فقد اوضحت قلقها إزاء سباق التسلح النووي شمال شرقي آسيا، وهو سباق ربما يؤدي الى تطوير كل من كوريا الجنوبية واليابان لبرنامج نووي.

لكل هذه الأسباب، يمكن القول ان المشكلة الكورية لا بد ان تصل إلى حل. إذ ان ذلك سيحدث في الإطار الذي عبرت عنه وزيرة الخارجية الاميركية، كوندوليزا رايس، ضمن تصريحاتها خلال جولتها الآسيوية الأخيرة. ففي إطار محادثات الأطراف الست، يجب ان تكون الولايات المتحدة على استعداد لإجراء محادثات مع بيونغيانغ، خصوصا حول القضايا التي يعتمد الأداء فيها بالدرجة الأولى على واشنطن، إلا ان ذلك يجب ألا ينال من الجبهة الموحدة الآن حول الثوابت.

* خدمة «تريبيون ميديا سيرفيسيز»

(خاص بـ«الشرق الأوسط»)