لا نريد انتصارات.. نريد عدالة

TT

ليس هناك أكثر ألماً، وقهراً، وشحططة، وضياع، وزهداً بالحياة بطولها وعرضها، من صاحب حق لا يسمعه، أو ينصفه، أو يلتفت إليه أحد.

وأستطيع أن اجزم وأنا مرتاح الضمير وأقول: إن (القضاء) في البلاد العربية مهزوز، ثم مهزوز، وبتعبير أكثر دقة وجدية: انه مخلخل ومتداعي الأركان.. لا أريد أن أحدد بلداً بعينه ولكنني أكاد أن أعمم.. والسبب ليس هو بالشريعة أو القانون أو النظام، ولكن السبب أولاً وأخيراً هو بالقائمين على التطبيق، أي القائمين على الفصل بين الناس، أي بمعنى أكثر صراحة ودون أي وقاحة: ان السبب الأساسي في ذلك الخلل والاهتراء: هم القضاة ـ مع احترامي لهم قليلاً.

وليس مستغرباً انه جاء في الحديث الشريف ما معناه: (قاض في الجنة وقاضيان في النار).

وللأسف أن القضاء في البلاد الأوروبية وما شاكلها إنما هو أكثر صرامة وعدالة وسرعة إنجاز، وقلة تلكؤ، وقلة إبهام، من القضاء في البلاد العربية.

لا نريد من الحكومات العربية انتصارات حربية، ولا مواقف سياسية، ولا حتى نهضة اقتصادية أو تعليمية أو اجتماعية أو تربوية.. إننا نحلها من كل ذلك، نطالبها فقط بالالتفات (للقضاء)، وصياغته، وتوثيقه، وحمايته، و(نخل قضاته).. ولن أكون مبالغاً إذا قلت: إن ثلاثة أرباع القضاة في البلاد العربية يحتاجون إلى من يعالجهم نفسياً وذهنياً ثم يقاضيهم على ما اقترفوه بحق أصحاب المظالم.

وفي التراث يقال إن قاضياً في العهد الأموي اسمه (إياس المزني) يضرب فيه الذكاء، مرّ يوماً بمكان فقال: إنني اسمع صوت كلب غريب، فقيل له: كيف عرفت ذلك؟!، فقال: بخضوع صوته وشدة نباح غيره من الكلاب، فكشفوا عن ذلك، فإذا بكلب غريب مربوط والكلاب تنبحه.

ويروى عن إياس هذا انه قال: ما غلبني احد قط سوى رجل واحد، وذلك أني كنت في مجلس القضاء بالبصرة، فدخل علي رجل شهد عندي أن البستان الفلاني ـ وذكر حدوده ـ هو ملك فلان، فقلت له: كم عدد شجره ؟، فسكت ثم قال: منذ كم يحكم سيدنا القاضي في هذا المجلس؟ فقلت له: منذ كذا، فسألني: كم عدد خشب سقفه؟ فأسقط في يدي وقلت له: الحق معك، وأجزت شهادته.

وإنني بدوري أسأل القضاة في البلاد العربية: كم منكم يستطيع أن يفرق بين أصوات البشر وأصوات الكلاب؟! وكم منكم يستطيع أن يحزر عدد الكراسي في مكتبه، وعدد أكواب القهوة والشاهي التي يتجرعها في اليوم الواحد وتستقر في معدته بكل سلاسة؟! وكم يستطيع أن يحزر عدد الآهات والزفرات والدمعات والطعنات في صدور المراجعين الذين حفيت أقدامهم وهم (يتشحططون) على عتبات المحاكم؟! ومرت على قضايا بعضهم أعوام وأعوام، وحضرة القاضي يضع يده اليسرى في ماء بارد، أما يده اليمنى فيمسك بها مسواكاً يلوكه بين أسنانه.

[email protected]