ما قيمة الديمقراطية.. إذا لم تلجم (القرارات شديدة التدمير)؟

TT

مسكينة هذه البشرية.. لقد ذهب عشرات الملايين من بينها، ضحايا: للخرافات.. والاوبئة.. والمجاعات.. والحمّية الجاهلية (التعصب).. ولئن كان هذا كله معروفا، فان (آفة) اهلكت مئات الملايين من البشر، لم يكثف عليها الضوء، ولم تعرف بالقدر الواجب.. هذه الآفة المقصلة هي (القرار الخاطئ) او الاحمق او المنحرف السفيه.. وليس اسوأ ما في الامر ان يصنع القرار الكارثة: دكتاتورٌ او مستبد، فما يثمر الاستبداد الا الكوارث، ولكن اسوأ ما في الامر: ان يصنع القرار الكارثة اناس يتلفحون برايات الديمقراطية، ويزدانون بطلائها، ويدعون اليها.. نعلم ان فرعون كان مستبدا بالرأي والقرار، وان قراره هو الصواب المطلق الرشيد كما يدعي: «ما أريكم الا ما ارى وما اهديكم الا سبيل الرشاد». وبالقرار المستبد طارد فرعون موسى ـ عليه السلام وقومَه ـ: ابتغاء قتلهم وابادتهم، فكانت النتيجة هلاك فرعون وجنوده: «فأتبعهم فرعون وجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم. واضل فرعون قومه وما هدى».. ونعلم ان أبا جهل استبد بالرأي فأهدر آراء سادات قريش ممن هم على شاكلته في الشرك، وأصر على حرب المسلمين فكانت موقعة بدر ـ بنتائجها المعروفة ـ التي هلك فيها ابو جهل نفسه!.. ونعلم ان ستالين ذبح الملايين: بالقرار الفردي المستبد.. وقد يقال: كان هناك حزب (يصوّب القرار).. اما وجود الحزب فنعم، واما انه كان يصوب القرار فلا، بدليل ان الذين عارضوا رأي ستالين في المكتب السياسي واللجنة المركزية: اصبحوا رقما في تعداد الملايين التي ذبحها! ومن هؤلاء مثلا (بريا) رئيس شرطة ستالين السرية!.. ولقد اتخذ ستالين قرارات سياسية واقتصادية وامنية مستبدة شقت شعوب الاتحاد السوفيتي على مدى ثلاثين عاما (1923 ـ 1953).. ان نتيجة الاستبداد بالرأي والقرار لا تكون الا خسرانا مبينا، وخيبة كاملة، ولذا حكم القرآن حكما مطلقا حاسما بـ(الخيبة) التامة على آراء ومواقف وقرارات كل (جبار)، أي مستبد فقال: «وخاب كل جبار عنيد».

ولقد اجتهد الناس في مكافحة هذا الجبروت والاستبداد باجتهادات فكرية وسياسية شتى منها (الاجتهاد الديمقراطي)، وهو اجتهاد يتحرى لجم النزوع الى الاستبداد بالرأي والقرار، من خلال ضمانات وآليات معينة.

بيد ان السؤال السياسي الحضاري الناجز الكبير الذي يستنفر النخب السياسية والفكرية والثقافية والقانونية والدستورية، لكي تجيب عنه بأمانة، وعلم، ونزاهة، ووضوح.. هذا السؤال الحضاري الكبير هو: ما قيمة الديمقراطية.. ما جدواها: اذا لم تمنع من (الاخطاء الفادحة في القرار)؟.. ما قيمة الديمقراطية اذا لم تمنع من (الاستبداد باسمها)؟

وهل ذلك كائن؟.. واقع؟.. ماثل؟

اجل.. اجل.. وهذا هو جوهر هذا المقال ومضمونه وقضيته.

من مزايا الديمقراطية ـ كما يتمناها منظروها ـ:

أـ منع الاستبداد بالرأي والقرار

ب ـ (تصويب القرار)، او ـ كخيار واقعي متواضع ـ: التقليل ـ الى ادنى حد مستطاع ـ من اخطاء القرار، ومن آثاره الجانبية الضارة او المدمرة.

فهل توافرت هذه (الضمانات الديمقراطية) في قرار الادارة الامريكية وهي تغزو العراق وتحتله.. ثم هل توافرت هذه الضمانات في (التعامل) مع فترة ما بعد الغزو والاحتلال؟

لقد تكاثرت البراهين وتوثقت وتضافرت على ان (القرار الامريكي) بغزو العراق، كان (مأساة شاملة كاملة: سياسية واخلاقية وانسانية واستراتيجية واقتصادية وحضارية).. وقد لا يهمهم شأن العراق والعراقيين. ومن هنا نقول: ان الولايات المتحدة ذاتها باءت ـ على نحو بالغ الفجيعة ـ بتلك المأساة المركبة الكاملة.. والبراهين الموثقة المتضافرة. لم يسقها كاسترو ولا شافيز ولا صدام حسين.. وانما هي (براهين امريكية): جمهورية وديمقراطية ومستقلة.

ويطول المقال جدا، اذا بسطنا القول في تلك البراهين والشهادات الناطقة بـ(اهدار الضمانات الديمقراطية) في صناعة قرار حرب العراق وما تبع ذلك من اجراءات وسياسات.. واجتنابا للتطويل: نسوق نموذجا واحدا من تلك البراهين والشهادات. وهذا النموذج نشرته مجلة «الشؤون الخارجية» في عددها الاخير.. تقول هذه الشهادة: «تفترض صناعة سياسة خارجية امريكية معتدلة وحكمية سلسلة من المناقشات الجادة والحادة بين شطري السلطة: التشريعي والتنفيذي. فالآباء المؤسسون الامريكيون منحوا فرعي السلطة هذين: صلاحيات واسعة في ادارة مملكة السياسة الخارجية، ودعوا القيمين على السلطتين الى (الكفاح لاجل الفوز بامتياز ادارة السياسة الخارجية بحكمة).. ومن شأن اشراف الكونجرس على السلطة التنفيذية ورقابته عليها: الحؤول دون ارتكاب الاخطاء ودون تكرارها، ومحاسبة المتهمين بالفساد.. وواضح ان رقابة الكونجرس على السلطة التنفيذية، وخصوصا على سياسات الامن القومي والسياسة الخارجية قد أَفَلَتْ وانهارت في الاعوام الستة المنصرمة (اعوام حكم المحافظين الجدد)، وانحرفت السياسة عن غاياتها بعدما تجاوزت السلطة التنفيذية مرحلة التعديلات والتحسينات والمراجعات.. ومع وصول جورج دبليو بوش الى الرئاسة: تبددت رقابة الكونجرس، وطواها النسيان، وتنصل الكونجرس من مسؤولياته واخل بها، ولم يبادر الى انشاء لجان تحقق في عدد كبير من القضايا: من انتهاك حقوق السجناء بمعتقل ابو غريب الى تنصت وكالة الامن القومي على المكالمات المنزلية الخاصة.

نعم.. ما قيمة (الضمانات الديمقراطية) اذا لم تمنع من الخطايا الفادحة في صناعة القرار، واذا لم تلجم من بعد ـ وبسرعة وعقل وحزم ـ تداعيات القرار المهلكة، وآثاره المدمرة؟.. ومن هذه التداعيات النكدة، والآثار التعسة:

1 ـ توحل امريكي ـ مسدود الافق ـ في العراق.. ونقصد بمسدود الافق: انه كلما همت رِجْلٌ بنزع نفسها من الوحل، غاصت الرجل الاخرى الى القاع، فانحدرت الرجل الاولى والجسم كله الى القاع.. ومن صور التوحل: نزيف دموي امريكي تتزايد معدلاته يوما بعد يوم.. وفشل تام في ايقاف هذا النزيف، على الرغم من ألوف الاكاذيب التي تحاول التغطية والتعمية.. وموت 650 الف عراقي على يد الاحتلال الامريكي، وبسبب المناخ الذي صنعه الاحتلال، مناخ: هدم مؤسسات الدولة.. وانعدام الامن وانتشار (الفوضى الخلاقة).. والتحريش الغبي ـ في صورة فهلوة ذكية! ـ بين طوائف المجتمع العراقي.. وتشوه صورة امريكا وسمعتها على نحو غير مسبوق قط في العالم كله.. ومن كان في ريب من هذا، فليتعرف على (الرأي العام العالمي) بواسطة آليات معتمدة ومعتبرة في قياس الرأي العام: رصدا وتحليلا: وفق منهج المسح المتكامل، وتحليل المضمون.

2 ـ انتكاس الاهداف، وضلال الرؤية فقد قالوا: ان من بين أهداف غزو العراق واحتلاله: تطويق ايران وسوريا في اقرب حزام جغرافي لهما: تمهيدا لترويضهما او تأديبها او ضربهما. فكانت العاقبة: التوجه الاضطراري للاستعانة بهذين البلدين نفسيهما لانقاذ امريكا من (دوامة العراق الدامية): المشينة للمصداقية والسمعة الامريكية على كل مستوى.

3 ـ التضحية الحمقاء بـ(مهنية المؤسسات المدنية المستقرة وبحياديتها وسمعتها) في سبيل تسويغ او خدمة قرار خاطئ.. ومن هذه المؤسسات (الاستخبارات العامة) او المركزية. فقد سقطت مكانة المخابرات المركزية الامريكية بسبب ان صانعي القرار ـ الخاطئ الخائب قد حملوها جريرة اكاذيبهم، بل صعّدوا الكيد لها عندما اتهموها بالفشل والتقصير والتسبب في المأساة.

والصور والامثال جد كثيرة.. ولقد علم الشعب الامريكي بحقيقة مأساة بلاده في العراق، فعاقب صانعي القرار الطائش بالتخلي عنهم، والتصويت للديمقراطيين في الانتخابات النصفية الاخيرة للكونجرس، التي جرت في مطلع نوفمبر الجاري، وكأنه يقول: صوتنا للديمقراطيين لعلهم يفعلون شيئا في مجال وتوفير الضمانات الديمقراطية لصناعة القرار، بعد ان اهدر المحافظون الجدد هذه الضمانات.

يا للهول!!.. لماذا يدفع أناس بأنفسهم الى هذا المصير التعس؟.. ولو كان الاتحاد السوفيتي موجودا ماذا عساه ان ينزل من الضرر الجسيم بأمريكا اكثر مما انزله بها نفر من بنيها؟.. ودوما يكون فتح مغاليق الازمات بأسئلة صريحة وجوهرية ومباشرة.. هذا التوحل الامريكي في العراق الذي رجم الامريكيين والعراقيين واطرافا اخرى عديدة بشواظ وحمم من الكروب والاهوال والتعاسات والآلام.. هذا التوحل: هل كان مرادا ومقصودا لذاته؟.. ان العقل والمصلحة لا يستسيغان الجواب بـ(نعم).. او ان هذا التوحل جاء (نتيجة تفكير خاطئ) في بناء المقدمات، ومباشرة الفعل، وتصور الآثار والمآلات؟.. على الرغم من ان الجواب بـ(نعم) جاف ومفجع وصاعق الوقع، الا انه الجواب الصحيح في الغالب، وهو على كل حال اهون وارحم من ان يكون التوحل المهلك مرادا ومقصودا.. والتفكير الخاطئ هو ـ بلا ريب ـ قاعدة الرأي الخاطئ، والقرار الطائش من ثم. بمعنى ان التفكير الخاطئ ـ والقرار المبني عليه ـ أديا الى (مأساة القرن الحادي والعشرين في العراق). ويبدو ان طريقة التفكير الخاطئة لا تزال تعمل. فتحت ضغط الضرورة: كلف الجمهوريون والديمقراطيون جيمس بيكر برئاسة لجنة تدرس (المخارج) الامريكية من الوضع العراقي. وقد خلصت اللجنة الى حلول معينة، صحيح انها عسرة الهضم، بيد انها ضرورية في تقدير اللجنة، وهي رؤية تبناها توني بلير، فسارعت كونداليزا رايس الى رفض هذه الحلول.. وفي السياق: رفضت المؤتمر الدولي للسلام بين العرب واسرائيل، كما رفضت ربط مشكلات الشرق الاوسط بالنزاع العربي الاسرائيلي. ولاول مرة نسمع ان الولايات المتحدة اصبحت عضوا نشيطا في (جبهة الرفض).

بقيت سطور ضابطة حاكمة لا بد منها.. ليس في السياق ما يتيح لاحد ان يفهم من كلامنا: اننا نعير الديمقراطيين بديمقراطيتهم، ذلك ان التعيير ـ في مثل هذه المقامات ـ: رذيلة يترفع عنها كل ذي عقل وضمير.. وليس في السياق دعوة الى عدم الاستفادة من الآليات والوسائل الجيدة عند القوم. فنحن موقنون بأن ما يتوصل اليه العقل الانساني برشد ونزاهة في خدمة الانسان انما هو (تراث انساني عام) ينبغي الاستبشار به، والانتفاع بما فيه، من دون تقديس وثني.

السطر الثاني: اننا كنا نرى ـ بوضوح تام ـ: الولايات المتحدة وهي تركض نحو الهاوية في العراق.. ولن نبخل عليها بالرأي الناصح.. قلنا لهم ـ في وقت مبكر: «لقد تعب الآباء المؤسسون الامريكيون في بناء امريكا، فهل تهدم البناء هذه الحفنة المتسلطة؟.. لقد قال المؤرخ الروماني القديم: تاستس: (ان جماعة القادة العظام الملهمين ينشئون الدول فتجيء جماعة صغيرة فاسدة مفسدة فتحطم هذه الدول).. ان هذا ظرف تاريخي بالنسبة لامريكا. والخيارات ليست كثيرة بين يدي الرئيس جورج بوش بل هي ثلاثة: ان يستقيل بسبب كثرة الازمات وتعقدها، وهذا ليس حلا، وانما هو ازمة جديدة! ثم ان (الاستقالات) ليست من تقاليد الرئاسة الامريكية.. ان تظل امريكا متوحلة في ازماتها مع احتمالات مؤكدة بان الارجل ستزداد غوصا في الوحل: في المستنقع المفتوح بلا نهاية.. ان يعزم بوش ـ في وثبة تاريخية ـ على كنس الذين تسببوا في هذه الازمات لامريكا وفي القسوة على بلدهم.. وهذا هو الخيار الاعقل والاكثر واقعية.. فقول هذا بباعث النصح الصادق الواجب لا بدافع الشماتة. فالضمير والحال لا يتسعان لهذه الصغائر.. ثم ان الشماتة ـ وهي السرور بأحزان الآخرين ـ: نقيض لاخلاق الاحسان للناس والرحمة بهم و(لا يرحم الله من لا يرحم الناس) كما قال نبي الاسلام.. ولكن يظهر ان القوم لا يحبون الناصحين.