«الجمبزة» السياسية

TT

ويتكاثر ترديد مصطلح «الجمبزة» السياسية هذه الأيام، في الدواوين والمقاهي السياسية. ومن الواضح أن هذا المصطلح مستخرج من «الجمباز». وهو اللعب الرياضي الذي يتطلب رشاقة بدنية، وقوة ذهنية على التركيز. وكذا الجمبزة السياسية، فهي تتطلب قدرة على الانتقال بين المواقف، وعلى القدرة على القفز بين الفرقاء، وتغيير الخنادق. لكن الجمبزة السياسية لا ترتبط بالضرورة بالدهاء والحنكة، ولا علاقة لها بالذكاء والحكمة، فقد تتم ممارستها بدافع الإفلاس، وقد يتم تبنيها بدافع الانتحار السياسي، وغالبا ما يكون الغباء المستحكم هو المحرك الأساسي لها.

والأمثلة على الجمبزة السياسية كثيرة على المشهد العربي من الخليج إلى المحيط، والحق أنه لا تخلو سياسة في الدنيا من جمبزة، بل يمكن القول بأن السياسة مرتبطة بالجمبزة، لا بل إن أفضل الساسة، هم أفضل الجمبازية. وإذا كان المثل العربي يقول: «فاز باللذة الجسور»، فإنه يمكن «اختراع» مثل جديد مفاده: «فاز بالسياسات من كان جمبازيا».

لعل واحداً من أشهر الساسة الجمبازيين في لبنان، هو الجنرال ميشال عون. فالجنرال عون انتقل من مواجهة السوريين وحلفائهم إلى التحالف مع حليفهم الأساس في لبنان حزب الله ونبيه بري من أجل كرسي الرئاسة. ومما يذكر أن العماد عون خاض حربا ضروسا ضد الكتائب وسوريا بمساعدة من صدام حسين. وكانت النتيجة أن اقتحمت القوات السورية الخاصة مكامنه في بيروت الشرقية، فلجأ إلى السفارة الفرنسية التي آوته حتى لجأ فرنسيا معارضا، إلى أن عاد طامعا في كرسي الرئاسة، حتى لو كان ذلك يعني مواجهة فرنسا ورفض تطبيق القرار 1701 وإنشاء المحكمة الدولية لمحاكمة قتلة الحريري. منتهى الجمبزة السياسية أن يكون ميشل عون وحسن نصر الله في خندق واحد!! وللأمانة والموضوعية، فإن السياسة اللبنانية تزخر بنماذج الجمبزة التي لا تحصى، بل يمكن القول بأن السياسة اللبنانية تعد مدرسة قائمة للجمبزة السياسية، يتعلم منها الكثيرون.

«نحن نعمل من أجل كافة الطوائف اللبنانية»، عبارة يرددها جميع ملوك الطوائف في لبنان. وهم سدنة الطائفية العاملون بكل تفان وإخلاص على بقائها، وتكريسها لمصالحهم وعلى حساب «المعترين» من خلق الله اللبنانيين. والعبارة بحد ذاتها تختزل الكثير من مظاهر الجمبزة السياسية.

في العراق يردد الطائفيون الذين يحكمون العراق اليوم، بأنهم يعملون «من أجل وحدة العراق، وتكاتف جميع أبنائه من كافة الطوائف والأديان والقوميات». جمبزة ما بعدها جمبزة، فالعراق اليوم يحكمه أناس أتوا من خلال قوائم انتخابية طائفية وعرقية بحتة، فالرئيس طالباني أتى ممثلا للأكراد. ورئيس الوزراء جاء بانتخاب قائمة الائتلاف الموحد، وهي قائمة طائفية شيعية لا تعرف من التوحد سوى اسمها. والبقية جاءوا عن طريق حشد أصوات السنة لصالح التصويت لقوائم لا تضم سوى السنة. ويرددون اليوم أن «الاحتلال هو الذي فرق العراقيين وزرع الفرقة بينهم»، وهل أرغمكم الاحتلال على خوض الانتخابات عبر قوائم طائفية حصرا؟ جمبزة عراقية جهارا نهارا. السيد عمرو موسى ـ أمين عام جامعة الدول العربية ـ دعا إلى اجتماع طارئ لوزراء الخارجية العرب، لبحث تطورات الاعتداءات الإسرائيلية على غزة، بعد مذبحة بيت حانون، وهذا شيء مطلوب ومرغوب. يموت المئات في العراق يوميا ولم تتم الدعوة لاجتماع وزاري عربي طارئ! وهذه من أمثلة الجمبزة القومية التي تتم على مستوى الأمة بأسرها.

ما بين الجمبزة والغباء شعرة، ولكن ومع الأسف، فإن ما بين الجمبزة والدهاء شعرة أيضا، وما بين الجمبزة والانتهازية حلف وعلاقة عضوية جينية يجيدها الساسة العرب من دون استثناء ـ على ما أظن!!