دروس من السعوديين

TT

في الوقت الذي يستمر فيه الجدل على المستوى الشعبي فيما يتعلق بالوضع الكارثي في العراق رحت اتأمل كارثة اخرى في السعودية، كان يمكن لها ان تحدث ولكن امكن تحاشيها. فهناك بعض الدروس في القصة السعودية التي يمكن ان تلقي الضوء على الاختيارات المتاحة للادارة الأميركية بقيادة بوش قبل ان تدهمها اسنان الوقت في المنطقة.

في البداية نتعرف على الخلفيات. قبل عشر سنوات اعلن اسامة بن لادن الحرب على الولايات المتحدة (لطرد الكفار من شبه الجزيرة العربية). وكانت احدى الافكار التي طرحها في الفتوى يوم 23 اغسطس 1996 هي ان الولايات المتحدة ضعيفة بصرف النظر عن قوتها العسكرية الضاربة. فقد فرت بجنودها من الهجمات الارهابية في بيروت والصومال، وانها سوف تفر من السعودية ايضا. وقال بن لادن عن كوادره الارهابية: هؤلاء الشباب يعشقون الموت كما تعشقون الحياة.

واتضحت معاني تلك الكلمات يوم 11 سبتمبر 2001 حين تزعم 15 ارهابيا سعودي المولد هجوما انتحاريا على رموز القوة الأميركية. ويمكن القول إن خطة القاعدة نجحت نسبيا: فقد اطلق احتلال اميركا الفاشل في العراق ردود افعال ضارية في السعودية، وقد فقد الشارع الاميركي صبره الان على الحرب، تماما كما تنبأ بن لادن.

وفي ظل النكسات التي تعرضت لها اميركا من السهل ان ننسى ان بن لادن فشل فشلا ذريعا في تحقيق هدفه الاستراتيجي من هجمات 11 سبتمبر. فقد كان الهدف هو اسقاط الحكم في بلده السعودية. ولكن المملكة هي اليوم اقوى واكثر أمنا مما كانت عليه قبل خمس سنوات.

قد لا يكون استقرار السعودية قويا قوة الصخر، ولكن مكاسبها انجلت في دراسة حديثة لنواف عبيد، وهو محلل نافذ البصيرة، ومستشار للحكومة السعودية. أوضح عبيد انه منذ مايو 2003 استطاعت قوات الامن السعودية ان تحبط أكثر من 25 هجوما ارهابيا كبيرا. وتعرض 264 ناشطا من القاعدة إما للقتل او الاعتقال. وتم القاء القبض على 845 اخرين لهم روابط مع القاعدة. ومن بين 26 ارهابيا على قائمة المطلوبين في السعودية تم اعتقال او قتل كل المطلوبين باستثناء واحد.

وربما كان الاهم من ذلك كله هو ان السعوديين بدأوا في اختراق وفض شبكة التطرف الديني التي منحت القاعدة منبرا. واصبحت وزارة الداخلية السعودية، مشرفة على برنامج أسماه عبيد برنامج تقليص ايديولوجي. ويقول عبيد ان علماء دين واساتذة جامعات يشرفون على البرنامج الذي خرج حتى الان 400 دارسا.

أما أسرة آل سعود، فتدير دفة الامور بثبات بقيادة الملك عبد الله. وفي الشهر الماضي أعلنت الأسرة عن تشكيل مجلس جديد للاشراف على انتقال الحكم الى جيل مقبل. ومر الحدث بهدوء، رغم أن التفاصيل غير واضحة ولكن الخطة تبدو وكأنها تضع اطارا قانونيا مستقرا لاختيار خليفة للملك ولولي العهد ـ مما يخفف خطر نشوء ازمة سياسية في المستقبل.

فما هي الدروس التي يمكن تعلمها من نجاة السعودية من خطر كارثي محدق؟ أهم تلك الدروس هو ان السعودية قررت ان تتحمل مسؤولية امنها بنفسها بدلا من الاعتماد على الولايات المتحدة، وهو الامر الذي لم يستسغه كثيرون في المملكة. بعد 2003 ادرك السعوديون انهم يواجهون خطرا ارهابيا مدمرا فبدأ التصدي له. وانصب اهتمامهم على حلول وطنية، بدءا بتخفيض الوجود العسكري الاميركي الظاهر والمذل، والسعي نحو الاصلاح السياسي، ورفع معدلات انتاج النفط.

كيف ينطبق ذلك على العراق؟ كما فعل السعوديون ينبغي على العراقيين انقاذ انفسهم بالعمل داخل الاطر السياسية السليمة والمنسجمة مع الثقافة والدين في المنطقة. ولندرك اننا اذا حاولنا فرض ارادتنا على ارادتهم بدفع المزيد من القوات الأميركية الى العراق او بحضهم على اتخاذ مسارات محددة كلما ازدادوا ضعفا. وكما حدث في السعودية لا بد ان نتحرك ببطء، ولكن بعزم، الى الظل بعيدا عن دائرة الضوء لتحقيق اهداف ممكنة وهي تدريب القوات العراقية وتقديم المشورة.

هناك عنصر يمكن ان يحتوي الحرب الاهلية العراقية في النهاية، وهو ان القوى الاقليمية بلا استثناء لن تقبل بعراق مفكك، لا ايران ولا سورية ولا المملكة العربية السعودية، ولا الاردن ولا تركيا. والغالبية العظمى من العراقيين لا يريدون تصفية دولتهم الموحدة. سوف يعيد العراقيون الاستقرار لشعبهم حين تتوحد القوى الوطنية، بما فيها تلك التي لا نستسيغها نحن مثل جيش المهدي الذي يقوده مقتدى الصدر، والمتمردين السنيين، حين تجتمع تلك القوى حول هدف موحد بتفويض إقليمي.

الولايات المتحدة وحدها قادرة على القيام بدور الوسيط في المؤتمر الاقليمي الذي يمهد لمرحلة سياسية انتقالية في العراق. تلك هي القوة الضاغطة التي نمتلكها في الوقت الحالي ـ قوة دبلوماسية، اكثر مما هي قوة عسكرية. لو استطاعت القوى المجاورة ان تستخدم ادوات ضاغطة لوقف النزيف العراقي، عندئذ يمكن لاميركا ان تخطو بعيدا.

* خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»