بين المثقف .. والشيخ

TT

بين حديث «الزهرة التي لا يجب حجبها... والعودة للوراء» عند مسؤول الثقافة الكبير، وحكاية «اللحم المكشوف» عند الشيخ والمفتي الأسترالي من أصل مصري أسابيع معدودة. تفاعل إعلامي من كتاب ومثقفين عرب كشف حالة ازدواجية وعدم اتساق المواقف والرؤى التنويرية حول الكثير من المسائل. فيبدو حماسهم للدفاع عن حق المثقف المسؤول في إبداء وجهة النظر، ويسحب هذا الحق من الشيخ. والاستراليون يحق لهم الاعتراض للدفاع عن قناعاتهم وثقافتهم الخاصة وتبدو دلالة على تحضرهم، والمصريون لا يحق لهم ويدل على سذاجة جماهيرية. ويقدم أحدهم اكتشافات بعيدة عن أهداف سياسية عند نواب داخل البرلمان المصري، وكأن هناك عملا وهدفا غير السياسة لمن هو تحت قبة البرلمان، وتختفي مهارات اكتشاف الهدف السياسي في الحملة الإعلامية الاسترالية..!

مثل هذه التناقضات عند بعض المثقفين محيرة، وتتكرر بإدعاءات عقلانية رديئة تبدو خطورتها أنها تعمل ضد انتشار الوعي المستنير الذي يهيئ المجتمع على احترام الآخر وحريته الشخصية، ويضعف الثقة في مواقفه ومقولاته. انخراط المثقف مع مجتمعه في صراع ضد قوى التخلف والتطرف بمختلف اتجاهاتها يجب أن لا يؤثر على مصداقيته في ترسيخ مبادئ التفكير العقلاني للوصول إلى الحقائق المنشودة عند كل قضية وتدريبهم على اكتشافها.

في الحالتين لا توجد جاذبية لرؤية مستنيرة وتسامح حقيقي مع الآخر يستحق الدفاع عنه، فحديث الشيخ ومقولته عن المرأة والحجاب ليس غريبا على من يدرك حجم التراكمات السلبية في الخطاب الإسلامي حول قضايا المرأة منذ عدة عقود. وحديث المثقف.. في وصف سلوك فردي وحرية شخصية عند إمرأة .. بأنه عودة للوراء، هو الآخر يعبر عن أزمة وعي بحقيقة التنوير الفكري المطلوب لمجتمعاتنا. من المقبول إدانة ردود الأفعال المبالغ فيها والضجيج السياسي التي تحدثه مثل هذه الموضوعات في المجتمع، والتساؤل عن غياب الاهتمام الشعبي والنخبوي بالأولويات. لكن من مشكلات الواقع العربي أن الاهتمام بالقضايا الكبرى ليس مباحة دائما، فيشغل الجمهور بالهامشي والشكلي الذي يتحمل المثقف والشيخ بعض المسؤولية عنه.

يصوغ كل من المثقف والشيخ في المجتمع العربي أفكارهما لبناء بعض المفاهيم وتحديد المواقف عند الجمهور حول أحداث الواقع، تتحول في بعض الحالات إلى نقاشات سياسية مشحونة متوترة، تعبر عن حقيقة التدهور في ثقافة التسامح والاختلاف. حساسية المفاهيم الدينية، وخطورة تأثيرها على الفرد الذي يتعامل معها بقدسية خاصة، تجعل مسؤولية خطاب الشيخ أكثر حضورا. بعض مظاهر التطرف الديني في المجتمعات العربية كانت بعض أحداثها نتيجة مقولات ومواقف وفتاوى من هذا الشيخ أو ذاك المنظر الديني. ومنذ ظهور حقبة التمدد الديني حاولت المعالجات النقدية المختلفة فرز هذه الآراء لتمييز شيخ التطرف عن غيره. ومع طفرة أحداث العنف في السنوات الأخيرة أصحبت معايير التطرف تفصلها وتتوسع فيها آلة إعلامية جبارة تبحث عن الإثارة في الشرق والغرب، وتحولت هذه المعايير إلى شبح مخيف يهدد مكانة كثير من علماء الدين، يتعوذ ويتحصن البعض منها بالإكثار من مفردات التسامح والاعتدال والوسطية..!

المثقف العصري المتأثر بفلسفة التنوير ومفاهيم الحداثة هل هو محصن ضد التطرف بمقولاته وآلية تفكيره ومنهجه العلمي، وهل يمثل مصدر إشعاع لبث روح التسامح داخل مجتمعه، أم هو الآخر قد يتورط بنزعة تكفير من نوع آخر، وتحويل مفاهيم حداثية وقيم ليبرالية إلى مقولات وشعارات هشة. بعض أطروحات التيار الديني تتهم المثقف العصري وتعمل على تشويه سمعته، وتحميله مسؤولية تطرف الشباب. والواقع أن هناك صعوبات كثيرة تواجه فرضية تحميل المثقف هذه المسؤولية عن نشوء التطرف وانتشاره الحالي في المجتمع العربي. ليس لأنه بريء ومحصن من التفكير المتطرف والرؤى الحادة، وإنما لأنه لا يوجد له جماهيرية وحشود من الأتباع تسمع له وتنفذ تعاليمه. فتأثيره سيظل محدودا، ونخبويا في كثير من الحالات. الأقرب إلى المنطق هو أن المثقف يتحمل هذه المسؤولية نتيجة تقصيره في تكوين هذه الجماهيرية داخل مجتمعه والانخراط مع همومه لنشر أفكاره التي يرى أنها صحيحة ومتسامحة.

حملات بعض أطروحات التيار الديني على المثقف ومحاولة تشويه سمعته لا تخلو من المبالغة، والتكلف في محاولة تضخيم دوره في أزمة التطرف المعاصرة بحجة أنهم يستفزون الشباب لتبرير سلوكيات العنف. ولأن المثقف هو الحلقة الأضعف ويفتقد للشعبية التي تحميه وتدافع عن حقوقه وتقوي سلطته، يتحول إلى كبش فداء، وصيد سهل لشيطنة كل أفعالة وأقوله، وجعله مصدرا لكل الشرور الاجتماعية والفكرية والسياسية، وتشويه كل النشاطات الثقافية وتصويرها بأنها جزء من المؤامرة على المجتمع وتقاليده.

مثل هذا النمط من الصراع يبدو واضحا في الحالة السعودية، حيث يتكرر الهجوم الشديد على بعض المثقفين والكتاب ويتهمون بالعمالة والخيانة والتغريب. كان للنقد الذي يبدو قاسيا في بعض الأطروحات من قبل بعض الكتاب والمثقفين عن الخطاب الديني، والتشهير بأخطاء بعض الوعاظ والمشايخ في أحداث العنف دورا في تصعيد هذه المعركة، والتراشق الذي خرج في أحيان كثيرة عن أدب الحوار وأخلاقياته. هذه الهجمات المنظمة بين اتجاهين قدمت شكلا من أشكال الصراع الخفي بين المثقف والشيخ. ولذلك تزايدت حالات تصيد كل فريق لأخطاء خصمه، ومحاولة إرباك نشاطاته وتشويه سمعته. وأخذت هذه المعارك أطوارا عدة وفقا لكل مرحلة زمنية ونوعية الخصم المستهدف. ولا تتورع في استعمال أي وسيلة لإحراج الآخر وتوريطه، واستعداء السلطة عليه. وتسجل منتديات الإنترنت التي لا حدود لحريتها بأقلام صريحة وملثمة كل تفاصيل وتطورات هذه الصدامات الفكرية الساخنة.

قبل أيام وفي سياق هذا الجدل المتوتر الذي أظهر شكلا جديدا ومؤسفا من طرق التعبير عن السخط والاحتجاج في الرياض استنكره العقلاء من كل تيار. قدم الدكتور عبد الله الغذامي في حوار له مع موقع «الإسلام اليوم» مقترحا لامتصاص هذا التوتر وزيادة مساحة الحوار بين التيارات المختلفة في الندوات فيرى أن «الحل الأمثل في هذه الحالة أن يتم ترتيب الندوات لتكون في وقت أطول مما هو معمول به الآن، ويُقلَّل من عدد المتحدثين على المنصة، لكي يتوفر الوقت الكافي للمناقشة، إضافة إلى أن وقت المداخلات لابد أن يكون أطول مما هو عليه الآن؛ لأن الكثير من الناس ينتظرون ساعة وربما ساعتين، ثم يُفاجأون بانتهاء الندوة دون أن يستطيعوا التعبير عن آرائهم، وهنا يعلنون الاحتجاج، وهو احتجاج مسوّغ وله أسبابه».

ومع هذا المقترح الذي يهدف لوضع فرص عادلة لكل اتجاه من أجل إشاعة روح الحوار والجدل الصحي بين التيارات المختلفة، هل من الممكن أن تسمح الجهات التي تشرف على تنظيم المواعظ والمحاضرات الدينية في المساجد للمثقفين والحضور بتقديم مداخلاتهم الشفوية ولو لدقائق بعد كل محاضرة التي لا تخلو هي الأخرى من أخطاء بشرية في طرحها الديني واجتهاداتها الفكرية. ولا تكون هذه الندوات تلقينية من طرف واتجاه واحد، وقد تسهم هذه الآلية من رفع كفاءة الوعاظ والدعاة. وستثري الخطاب الديني الذي سيجتهد ويحرص على ضبط مقولاته علميا، وستتيح فرصا جديدة للحوار بين الشيخ والمثقف.