لبنان ليس أوكرانيا.. وليس جورجيا!

TT

حبذا لو استطاع الوسط التجاري في بيروت استيعاب كل اطياف الفولكلور السياسي في لبنان... لكانت هايد بارك حزب الله في ساحة البرج نافست هايد بارك البريطانية في بارك لاين في فتح صدرها لكل الاطياف السياسية في لبنان لإبداء رأيها الصريح في الهم المشترك: مستقبل «الدولة» في لبنان.

ولكن المؤسف ان مستقبل «الدولة» كان الغائب الاكبر عن هايد بارك حزب الله في بيروت فالمطلوب حصرا اعادة توزيع حصص التمثيل الطائفي في الحكومة وتعديلها بحيث تضمن لحزب الله وحلفائه «الثلث المعطل» في أي تصويت لحكومة فؤاد السنيورة على القرارات الرسمية... كائنا ما كانت تداعيات هذا التعديل على روحية دولة الطائف.

مع ذلك يبقى الفارق الابرز بين هايد بارك بيروت وهايد بارك لندن أن الاخير، على عراقته، لم يطرح نفسه يوما بديلا عن البرلمان البريطاني فيما هايد بارك بيروت ينطلق من منطق إلغاء دور المؤسسات الدستورية الديمقراطية والحلول محلها... بمظاهرة شارعية, في بلد أثبت مرارا وتكرارا ان شارعه شارعان وشعبه شعبان ـ ان لم يكن اكثر ـ واصبح حق التظاهر سلاحا ذا حدين. وما أفرزته «أدبيات» تظاهرة هايد بارك البيروتية من توتر في «الشارعين» وتأجيج للتيارات المذهبية يستدعي عودة سريعة الى روحية الشعار الذي طرحه، قبل عام تقريبا، الامين العام لحزب الله، حسن نصر الله، يوم قال، في اتهامه الاميركيين بتشجيع مظاهرات بيروت الشبابية المناهضة لسورية: لبنان ليس كأوكرانيا وجورجيا ـ أي ان اسقاط النظام في الشارع ليس واردا في لبنان.

من الطبيعي ان يكون الامين العام لحزب الله، في اشارته الى تميز لبنان عن اوكرانيا وجورجيا، أخذ في الاعتبار طبيعة «التركيبة» اللبنانية المعقدة التي توسلت، حتى الآن، شعار «لا غالب ولا مغلوب» طريقة حياة سياسية.

الا ان السؤال يبقى: ماذا تبدل في لبنان منذ ان أطلق السيد حسن نصر الله شعاره الشهير ليصبح ما كان باطلا في الامس حقا اليوم وإسقاط النظام في الشارع «شرعيا»؟

والأخطر من ذلك، لماذا بات المطلوب من اعتصام بيروت ان ينتصر فريق لبناني على فريق آخر؟... ألإرضاء الجهة الخارجية التي تؤجج المواجهة الداخلية أم للتأسيس لظلامات جديدة تضاف الى المشكلات المعلقة والراقدة في لبنان فينتفخ برميل البارود اللبناني وينفجر «تلقائيا»؟

برميل البارود اللبناني، ان انفجر هذه المرة، فسوف ينفجر في وجه الجميع بعد ان اقترنت حالة الاصطفاف المذهبي في الداخل بحالة اصطفاف اقليمي ودولي حولت الازمة من نزاع بين أكثرية برلمانية وتظاهرة شارعية الى مواجهة بين «اللعبة الديمقراطية» و«الالعوبة الشارعية».

إذا كان ثمة عبرة مما يحدث فقد لا تكون أن «الثلث المعطل» يعيد تقويم الاعوجاج في النظام اللبناني بل ان «لبنانات» الكيان الجغرافي الواحد أصبحت تتعايش على مضض في بلد أصبح أمل اللبنانيين في تحويله الى وطن واحد يساوي أمل ابليس في الجنة.

الاستنتاج البديهي مما يجري اليوم هو ان لبنان الوطن الواحد انتهى عام 1975 (عشية اندلاع حرب الآخرين الاولى على أرضه)، وان الوحدة الوطنية التي ارسى قواعدها اتفاق الطائف لم تكن أكثر من هدنة عسكرية ظرفية ومؤقتة.

رغم ذلك كان يمكن تجنب أزمة لبنان الراهنة لو أتيح للبنانيين، داخليا، ان يستكملوا استقلالهم الثاني عن سورية، وخارجيا، لو ان الادارات الاميركية اقتنعت بان الشرق الاوسط تحول، منذ العام 1948، إلى ساحة معقدة لتداعيات قضية واحدة، هي القضية الفلسطينية بدليل ما افرزتها من ظاهرة تلو الاخرى بدءا بالدكتاتوريات العسكرية ـ يوم كانت الآمال معقودة على قدرة الدول على حل القضية ـ وانتهاء بحركات المقاومة الوطنية ثم الأصولية يوم فقد الشارع العربي ثقته «بالمؤسسة».

ولكن اسوأ ما شهده لبنان خلال السنة الحالية كان تداخل العامل الخارجي مع العامل الداخلي على ساحته الضيقة وتقاطعهما، فقبل ذلك لم يكن صعبا على «ثورة الارز» ان تمسك بزمام المبادرة السياسية في لبنان ولم تبدأ بفقدانها الا بعد ظهور عجز الولايات المتحدة عن حسم الملف النووي الايراني وارتكابها خطيئة لا تغتفر بحق لبنان في حرب الثلاثة وثلاثين يوما، فحين ووجهت ادارة جورج بوش بخيار واضح بين أن تشد أزر ثورة الارز وأن تمهل اسرائيل في تصفية حساباتها مع حزب الله اختارت دعم اسرائيل مؤكدة، في ظرف دقيق في مسيرة «ثورة الارز»، أن لا صوت يعلو على رغبات اسرائيل.

حرب الثلاثة وثلاثين يوما كانت المفصل التاريخي في تعثر مسيرة «ثورة الارز». آنذاك لم تصم ادارة بوش آذانها على دعوات السنيورة المتكررة لوقف سريع لإطلاق النار فحسب، بل تجاهلت مساعي كل المسؤولين العرب الذين توافدوا على نيويورك على أمل انتزاع موافقة بوش على استصدار قرار من مجلس الامن يطالب الاسرائيليين بانسحاب فوري من الاراضي اللبنانية الى ما وراء الحدود ـ رغم تأييد حلفاء واشنطن له، باستثناء حكومة توني بلير ـ فاستغل الاسرائيليون «المهلة الإضافية» التي منحتها لهم إدارة بوش لمواصلة عدوانهم على لبنان وفي هذا السياق تعريض حكومة السنيورة الى تهمة «التواطؤ» معها.

خطب وشعارات هايد بارك بيروت توحي بان حكومة السنيورة تدفع اليوم ثمن اخطاء ادارة حكومة بوش التي اتاحت للمعارضة الاصولية والوصولية في لبنان الاستفادة منها للظهور بمظهر الداعي الى حكومة «وحدة وطنية» فيما المطلوب السيطرة على الحكم... فهل يعود اللبنانيون الى وعيهم ويقتنعون بان عليهم وحدهم، دون الغرب أو الشرق، مسؤولية تحويل تعددية لبنان المذهبية والاثنية إلى حالة من حالتين لا ثالث لهما: إما الى حالة تنوع ضمن «وحدة اجتماعية» على الاقل، أو عامل تفجير لكيان لم يعد يتسع لنزاعات الآخرين على ارضه.