شكرا للمنصفين

TT

حقٌ علينا أن نعترف للآخر إذا أنصف وأحسن، وفي القرآن: (ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة( وفي هذا اعتراف لبعض أهل الكتاب بأنه محسن، وقد وقّع بعض مشاهير الغرب ونجومه شهادات صادقة في حق الإسلام ورسوله (، فهذا المؤرخ الفرنسي الشهير جوستاف لوبون يقول: ما عرف العالم فاتحاً أعدل ولا أرحم من محمد ( وهذه الشهادة زادت من قيمة هذا المؤرخ عند أهل الشرق من المسلمين، وشكره عليها العقلاء، وفي ديننا إنصاف لمن خالفنا إذا أجاد في باب من الأبواب.

ففي صحيح مسلم عنه ( أنه قال: «لا تقوم الساعة إلا والروم أكثر الناس»، والروم أجداد الأوروبيين والأمريكان فعلَّق على الحديث عمرو بن العاص بقوله: إنهم أمنع الناس لظلم الملوك أي أنهم يعدلون فيما بينهم ولا يقرون الظلم في مجتمعاتهم، ولهذا كان كل عاقل شريف يحترم علمه وقلمه ينصف من خالفه فيستحق بذلك وسام التقدير كما فعله الكاتب الأمريكي مايكل هارث في كتابه (العظماء المائة) وهؤلاء العظماء يقصد بهم عظماء الخليقة منذ آدم إلى الآن، ولك أن تتصور من كاتب أمريكي أن يجعل العظيم الأول في كتابه هو محمد (؛ لأنه قصد الحقيقة فأرضى ضميره وصان اسمه من الحيف والزور، وإنما أسوق هذه الأمثلة ليستفيق من يوقّع شهادات الزور ومن يصدر أحكاماً جائرة منّا على الغير ومن الآخر علينا، إن من بني جلدتنا من لا يرى في الغرب إلا الهمجية والتحلل والحياة المادية والاستعلاء بالقوة ونحو ذلك من المعايب والمثالب حتى انني سمعتُ لأحد العرب ممن يقيم في بريطانيا عبر قناة فضائية يصب جام غضبه على المجتمع الغربي، ويصفه بأبشع الصفات، وتساءلتُ: فلماذا يقيم بين أظهرهم ويدرس في جامعاتهم ويستفيد من الخدمة المجانية من مؤسساتهم، بل يلجأ البعض إليهم بحجة الفرار من القهر والكبت، ثم تُفاجأ وإذا هو يهجوهم صباح مساء ولا يعترف لهم بحسنة واحدة، والقرآن يرفض هذا المسلك المشين من تزوير الشهادات والظلم في الأحكام حتى مع الأعداء: (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى( وأيضاً فعند الغرب ساسة وكتّاب وفلاسفة ظلموا الإسلام ولم يعترفوا له بأي حسنة، فهو عندهم دين القهر وإلغاء الآخر وإقصاء المخالف والاستيلاء على مقدرات الغير وهذا ظلم صارخ للإسلام، وكان الواجب على هؤلاء لو أرادوا الإنصاف أن يقرأوا الإسلام بتجرد، وأن يحاكموه إلى المنطق والعقل وأن يسلكوا مسلك حملة الضمير من مشاهيرهم كبرنارد شو والقائد نابليون والكسيس كارليل وغيرهم، والواجب علينا أيضاً نحن أن ننصفهم فيما أجادوا فيه من رقي مادي وتقدم صناعي واقتصادي ونحوه، ولو لم يكن عند الغرب إيجابيات في نواح كثيرة لما أقدم كثير من أبناء الشرق على اقتحام البحر هرباً إلى تلك البلاد، فمنهم من يغرق ومنهم من يخرج من البحر سالماً ليقول لسان حاله وهو يلتف إلى وطنه الأم: (ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون( فهل هذه حسنة للغرب أم سيئة؟ إن الإجحاف في الحكم من الطرفين الشرق والغرب أوصلنا إلى حالة تأزم في العلاقة وضيق في الأفق وانسداد في طريق التواصل والتحاور فكيف يقبل المسلمون أفكار من يزعم أن الإسلام دين سيف وعدوان، وكيف يقبل الغرب من يقول منا إنهم قطيع من الأنعام ليس لهم أي خصلة حميدة، إن الذي يريد أن يلتقي مع الغير على مصالح مشتركة ويريد أيضاً أن يفهمه الآخر فعليه أن يكون عادلاً منصفاً كما قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم( وإن مصيبتنا مع من خالفنا أنه لا ينصفنا فتجده يلغي كل حسنةٍ لديننا ويشطب على كل فضيلة لتاريخنا وبعدها يريد منّا أن ننصفه!! وأيضاً يقابل هذا طائفة منا تنظر لمن خالفها بنظارات سوداء ترى الدنيا كلها سواد في سواد، والمنصفون حتى في مجتمعنا قليلون وهم من يستحق الشكر والثناء الجزيل، وكثير تحمله روح الانتقام على إصدار الأحكام الجائرة في حق من خالفه ولو كان معه في دائرة الإسلام، فتجد لافتات التكفير والتفسيق والتبديع ويوحي لك بحكمه الظالم أن الجنة له ومن وافقه فحسب (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى تلك أمانيهم( وإنني أقول دائماً: الحمد لله الذي جعل مفاتيح الجنة عنده ولو كانت عند بعض الناس لما أدخل إلا من وافقه على رأيه (قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذاً لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتوراً(.

في الحديث الصحيح أن رسول الله ( أمر بجلد رجل شرب الخمر فقال بعض الصحابة للشارب: لعنه الله فأنكر عليه الرسول ( قوله وقال له: لا تقل ذلك فإنه يحب الله ورسوله، فانظر لهذا الإنصاف لرجل اشتهر عنه كثرة شرب المسكر؛ لأن في الحديث أنه أُتي به مراراً ومع هذا فقد بيَّن الرسول الكريم ( أن هذا الرجل يحمل حب الله وحب رسوله، فلا يجوز أن يُلعن، إنني لا أفسر عدم إنصاف الأشخاص أو الدول أو الشعوب أو الأفكار إلا بضيق الأفق وركاكة العقل ونقص العلم وضحالة الثقافة:

والذي نفسه بغير جمالٍ

لا يرى في الوجود شيئاً جميلاً

إن صاحب الكتاب الواحد والفن الواحد الذي لم يسمح لنفسه بالإطلاع والسماع والحوار لا يحق له أن يتصدر الجموع ليصدر أحكاماً في حق الآخرين، إذاً صار من الواجب على حملة الأقلام وصنّاع الحرف ورواد المعرفة أن يقتلوا القضية بحثاً، وأن يستولوا على المسألة دراسةً وإطلاعاً حتى يصلوا إلى الرسوخ العلمي: (والراسخون في العلم يقولون آمنا به( وحتى ينالوا اليقين المعرفي ويخرجوا من دائرة الوهم والظن: (إن الظن لا يغني من الحق شيئاً( شكراً للمنصفين منا ومن غيرنا، وشكراً لأخينا وصديقنا أبي الطيب المتنبي حيث يقول:

وَلَم تَزَل قِلَّةُ الإِنصافِ قاطِعَةً

بَينَ الرِجالِ وَلَو كانوا ذَوي رَحِمِ