كيف استغلت إيران نقاط الضعف في تقرير بيكر ـ هاملتون؟

TT

وفّر تقرير بيكر ـ هاملتون منذ صدوره، الفرصة امام ايران لاظهار المزيد من المواقف المتصلبة إن كان من ناحية قوتها العسكرية، او من ناحية حتمية سقوط منطقة الشرق الاوسط كلها في دائرة نفوذها. وتتقن ايران ابراز المظهر القوي على اساس انه يخفي الكثير من عوامل الضعف التي تخترق مجتمعها وطبقاتها واقتصادها.

المشكلة في تقرير بيكر ـ هاملتون ان واضعيه ينظرون الى الامور من ناحية رؤية الولايات المتحدة لشكل العالم ومصالحها فيه، دون الأخذ في عين الاعتبار ما ترتئيه مصالح دول كبرى اخرى، كذلك لم يكن لدى واضعي تقرير بيكر ـ هاملتون الصبر او العادة للتعاطي مع ما يعتبرونه «تفاصيل» الشرق الاوسط، لأنها بنظرهم امور صغيرة لن يدوم التواؤها. وهنا يكمن الخطأ الكبير، لأن الشرق الاوسط، رغم اننا في القرن الواحد والعشرين، لا يزال يعيش ويسوّق تفاصيل تصل احياناً الى الماورائيات، وفي حين يتجاوز التقرير كل «مضيعة الوقت» هذه، الا انها لدى بعض دول الشرق الاوسط، تصب في الهدف الذي تعمل له منذ عشرات السنين.

مقطع صغير من التقرير، يكشف باختصار تعاطي الولايات المتحدة مع العراق وكذلك مع الشرق الاوسط، فهو يشير الى نقص كبير في عدد الناطقين باللغة العربية، وينقل عن قادة عسكريين اميركيين كبار كيف ان الاستخبارات العسكرية تعتمد على مترجمين يعجزون عن نقل النص الحقيقي. هذا المقطع يشرح باختصار المشاكل التي تواجهها اميركا في العراق، ولا بد من ان يكون واجهها واضعو التقرير الذين، كما تبين، لم يسألوا اي طرف عراقي او يبحثوا معه، لذلك جاء الرفض العراقي، وتحذير الدول العربية المجاورة للعراق. ايران اشتمت من التقرير ضعف واشنطن المتزايد وتخبطها في ايجاد مخرج «مشرّف» لها، فتمددت لاحتواء «حماس» ايضا. لكن، رغم القوة التي استمدتها القيادات الايرانية، قرر الطلاب الايرانيون لفت نظر واشنطن الى الخطأ الذي ترتكبه في تجاوزها لسلبيات النظام الايراني. فقد قاطع بعض الطلبة كلمة كان يلقيها الرئيس محمود احمدي نجاد في «جامعة امير كبير» الصناعية في طهران وهتفوا: «الموت للديكتاتور». ولما احرق الطلاب صوره اوضح احمدي نجاد: «انه لشرف لي ان أُحرق من اجل مبادئ امتي والدفاع عن النظام». وكان طلبة «جامعة امير كبير» عبروا عن اعتراضاتهم على الاجندة السياسية والاقتصادية للحكومة التي «تسبب في افلاس الصناعة، وتزيد من التضخم، وتنشر الفقر، وتشوه صورة البلاد على المسرح الدولي، وتتلاعب بمصير ايران في المسائل الديبلوماسية».

اثناء القاء احمدي نجاد كلمته، سُمع دوي انفجار قنبلة صوتية فقال: «لا تأثير بعد الآن للمدافع والدبابات والرشاشات». والمعروف ان أحمدي نجاد يؤمن بقرب عودة المهدي المنتظر، وهو بمثابة الابن الروحي لآية الله مصباح يزدي رجل الدين المتشدد، ورئيس المجلس الاعلى للمؤسسة الدولية لبيت رسول الله. وقد يكون رد احمدي نجاد ذاك سببه ما نشرته صحيفة «سياسات روز» الايرانية في السادس من الشهر الجاري عن الرحلة التي قام بها آية الله مصباح يزدي الى لبنان اخيراً، حيث اجتمع مع الامين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله. ونشرت الصحيفة الايرانية التقرير الذي وضعه يزدي عن رحلته والأحداث التي واجهتها المقاومة الاسلامية خلال معاركها مع اسرائيل. وأكد «ان بعض الانتصارات التي حققها حزب الله تفوق العجائب التي وقعت في صدر الاسلام»، ونقل بعض هذه القضايا التي سمعها خلال اجتماعه بالسيد نصر الله:

«في الحرب، كان العدو يملك ورقتين رابحتين:

الاولى انه كان مزوداً بكاميرات اشعة ما دون الحمراء تساعده على رؤيتنا ليلاً بسهولة، في حين لم نكن نملك ما يسمح لنا برؤيته.

الثانية كانت قدرته على القيام بعمليات جوية، ونشر قواته خلف خطوط الجبهة الامامية.

«ابلغني قائد احدى قواعدنا الأساسية، الذي ـ انا السيد حسن نصر الله ـ أثق به جيداً، قائلا انه في احدى الليالي «كنت قلقاً من توسع هذه الحرب وخداع الصهاينة، وبينما كان العدو منهمكاً في نقل قواته بطائرات الهليكوبتر، وكنا غير قادرين على القيام بشيء لأننا لا نملك ما يسمح لنا برؤيته، شعرت بتعب وغفوت. في الحلم رأيت السيدة زينب، وشكوت لها من وضعنا، فأشارت الى مكان حيث رأيت امرأة اخرى، ثم قالت لي: «نحن معكم ونصلي من اجلكم». اكدت لها ان وضعنا سيىء، وتذكرت طائرات الهليكوبتر الاسرائيلية. طلبت مني الصبر، ولم اتوقف عن ابداء القلق، عندها دلت على مكان وقالت: «اذهب الآن لقد انتهى كل شيء». استيقظت من الحلم (...). وعادة نتلقى الاخبار بعد حدوثها بـ 15 دقيقة، وبعد مرور 15 دقيقة على الحلم، وصلنا ان طائرة هليكوبتر تحطمت بركابها العسكريين. وأدركت انها تحطمت في المكان الذي دلتني عليه السيدة زينب. وهذا ما دفع العدو الى التقهقر بخوف.

«المهم انه بعد هذا الحادث ظن الصهاينة ان حزب الله لديه اجهزة للرؤية الليلية».

ويواصل آية الله يزدي تقريره، ويروي على لسان السيد نصر الله: «انتهى سلاحنا على احدى الجبهات، لذلك اصدرنا الأمر بالانسحاب. كانت قواتنا في موقع قرب النهر (الليطاني) الذي يريد ان يقطعه الاسرائيليون لجعله حدوداً. قواتنا تلك كانت على اتصال مع مجموعة ترابط ابعد من النهر، فطلبت منها النجدة، لكن هذه المجموعة قالت انها لا تملك السلاح او الذخائر. في هذه الاثناء انطلقت النيران على الاسرائيليين، جنودنا على الجبهة اتصلوا بنا، وابلغونا اننا نصيب الهدف. استمر القصف وعجز الاسرائيليون عن التقدم بسبب قوة القصف. بعدما هرب الاسرائيليون، شكرتنا قواتنا على الخط الامامي، فقلنا لها، ان لا سلاح لدينا، وكل اعتقادنا انهم هم من كانوا يواجهون العدو. في النهاية، لم يعرف احد من ساعد جنودنا!».

قد تدخل هذه التقارير ضمن الخانة التي تريد ايران التحرك فيها: قوة عسكرية، نصر الهي، نفوذ اقليمي، لكن ايران تواجه عدة ازمات تتراوح ما بين مقاطعة تفرضها الامم المتحدة الى حرب اهلية في العراق، الى عودة طالبان في افغانستان الى التوتر السياسي في لبنان، دون ان يخفي ذلك كله تردي العلاقات بينها وبين المملكة العربية السعودية. قد يكون من الصعب على ايران التراجع عن تسويقها لصورة «إيران المسيطرة»، فهذه تحتاجها داخلياً، كما تحتاجها لتطبيق سياسة آية الله الخميني مؤسس الجمهورية الإسلامية.

الذي اثار ايران انه رغم «هذه القوة» التي تسوقها، فان السعودية لم ترد ابداً على دعوتها لترتيبات امنية جماعية في الخليج، كذلك كان موقف السعودية الحاسم بالنسبة الى حزب الله في لبنان، وتشعر ايران انها بعد الحرب الاخيرة في لبنان والمظاهرات التي دعا اليها الحزب يدعمه التيار الوطني الحر للجنرال ميشال عون، انها تقترب من تحقيق الهدف، والهدف كان اعلنه السيد حسن نصر الله في الخامس من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 1989، في احتفال تأبيني في «الذكرى الاولى للمقاوم عبد الله عطوي (الحر العاملي).

في ذلك الاحتفال وبعدما حيا السيد نصرالله «الحر العاملي» وجميع المقاومين قال: «في خضم الاحداث في لبنان تبرز مشكلة اسمها اتفاق الطائف ومشكلة اسمها ميشال عون، وليس صحيحاً ان من يرفض الطائف هو مع ميشال عون. ان اتفاق الطائف مشكلة لأنه يكرس النظام الطائفي الماروني ولا اصلاحات بل زيادة في عدد النواب، وقد اعطيت صلاحيات لمجلس الوزراء وبقي رئيس الجمهورية القائد الاعلى. ان مشكلتنا في لبنان هي النظام الطائفي الذي سيبقى في ظله الحرمان، والبديل كما قال مرشد الجمهورية الاسلامية آية الله علي خامنئي، ان هذا النظام يجب ان يسقط والناس هم يحددون صيغة النظام الجديد. (...) اما ان ميشال عون مشكلة، فلأنه حالة اسرائيلية صدامية تنميرية ولا يرى الا مصالحه الشخصية ومصالح طائفته، فهو النهج الماروني العنصري في الشرقية. والبديل عن مقررات الطائف هو المقاومة». (جريدة النهار 6 تشرين الثاني (نوفمبر) 1989).

الآن، وفي اسوأ الحالات اذا تطور الوضع الى حرب اهلية، فان ما يجري في لبنان سيشعل العداء السنّي ـ الشيعي في المنطقة، حتى ولو تدخلت ايران بكل قوتها لمنع انفجار الوضع اكثر في العراق. وهي استبقت الاحداث بتشجيع عبد العزيز الحكيم رئيس المجلس الاعلى للثورة الاسلامية ـ الموالي كثيرا لايران ـ على السفر الى واشنطن كي يُنظر الى هذه الزيارة في الخليج على انها حوار غير مباشر ما بين واشنطن وطهران.

لكن تبقى عقدة ايران انها راغبة في تعاون سعودي معها كي يُنظر اليها كدولة اسلامية بدل اعتبارها قوة شيعية صرفة. هذه التفاصيل تجاهلها تقرير بيكر ـ هاملتون رغم ان المنطقة تتغذى عليها، كما تجاهل التقرير مواقف دول كبرى اخرى اراد استثناءها من الصورة الكبرى للعالم. فروسيا مثلاً لا تنوي تزويد ايران بالسلاح النووي. اما مصالح الصين في ايران فانها توازي المصالح الروسية، فقد ركزت الصين على الشراكة الاستراتيجية مع روسيا بعد الغزو الاميركي للعراق، وبعد التحالف الاميركي المكشوف مع كل من اليابان والهند وكوريا الجنوبية للحد من النفوذ الصيني في آسيا.

لكن مواقف هذه الدول لن تنقذ ايران، اذ ان اصرار روسيا والصين على عدم فرض العقوبات افشل خطة وزيرة الخارجية الاميركية كوندوليزا رايس، وهذا ما سوف يبرر لنائب الرئيس الاميركي ديك تشيني وحلفائه الضغط على الرئيس بوش حتى يبدأ في التخطيط السياسي لتوجيه ضربة عسكرية ضد ايران. وعندها ستظهر كل نقاط الضعف التي احتواها تقرير بيكر ـ هاملتون.