معقولة يا محمود!

TT

لكي تعرف كم تغيرت القاهرة، يجب ألا تكتفي بالذهاب الى «ريش» والفيشاوي. يجب ان تذهب ايضا الى «غروبي». وفي غروبي البلاط الأبيض قد اسودّ واهترأ. وجناح الشوكولاتة والحلويات شبه مهجور. وعلى المدخل إعلان يقول «8 جنيهات الحد الأدنى الإلزامي للطلبات»، أي حوالي دولار ونصف. ولا حرج. فعندما ذهبت إلى مقهى فندق بلازا في نيويورك أول مرة عام 1973 كان الإلزامي 5 دولارات ويتضمن القهوة والحلوى وموسيقى الاوركسترا. وفوق «غروبي» على واجهة المبنى القديم يافطة عريضة تعلن مرور سنة على اعتقال أيمن نور زعيم حزب الغد المعارض.

وقد تسربلت القاهرة بالزحام. أو بالأحرى بالمزيد منه. ولذلك اضطر الزميل محمود عوض أن يغير مكان الغداء من كافيتريا نقابة الصحافة، التي يطيب لجميع المتظاهرين التجمع أمامها، إلى مطعم لفتة الكوارع والموزة والاستاكوزا قرب شارع عماد الدين. وأرجو ألا يسألني احد ما هي ـ أو هو ـ الاستاكوزا. لكن يا مولاي هي دي الاستاكوزا على اللائحة ومعها البتيلو والجيلاتي. وشكوت لمحمود عوض من أنني أجد صعوبة في التعرف إلى القاهرة التي أعرفها. الحشود تغطيها. ومباني شارع عماد الدين المطرزة بالشرفات نصف المستديرة، تغطيها طبقة هائلة من نفث العوادم. وفوق كل مربع من ألف متر مربع ألف سيارة تاكسي ترسل ألف زمور في الثانية الواحدة. وليس بلا سبب، كما في بيروت، بل لألف سبب، وألف إنسان يحاولون عبور الشوارع والساحات من جهة إلى جهة من دون أن يفرقوا بين الرصيف والإشارة والطريق. إنني أكتب عن الازدحام في القاهرة كما يكتب الرحالة والمستشرقون لكنني، برغم كوني قادما من بيروت وزماميرها وعتي سائقيها، منبهر بهذا العدد من الناس والسيارات والزمامير وعابري الطرقات على كل الإشارات في كل الشوارع والساحات والميادين. ولا مفاجأة طبعا. فالقاهرة خمس مرات بيروت. وربما هذا يفسر أنها آخر مدينة في العالم يستخدم فيها الشرطي صفارة حتى اليوم. طبعا بلا جدوى. فقط للإيقاع.

هرعنا ندخل إلى مطعم فتة الكوارع والموزة (فخذ الخروف). وطلبت صحن فلافل، فوقف النادل حائرا وحزينا إلى أن ترجم له محمود عوض بأن المقصود هو الطعمية. وطلبنا يا مولاي «فول إسكندراني». وإذ حضر ذكر الإسكندرية تذكر محمود يوم قضى عشرة أيام في أحد فنادقها ضيفا على أم كلثوم. وبعد أيام ذهب يسهر عند محمد عبد الوهاب. وأخذ موسيقار الشرق يتحدث في كل شيء، ثم توقف فجأة وقال: «صحيح يا محمود أن أم كلثوم دفعت عنك أجرة الأوتيل؟» وتهرب محمود من الجواب. وتحدث عبد الوهاب عن ذكرياته مع شوقي ثم توقف وقال: «ما قولتليش يا محمود، هي أم كلثوم فعلا دفعت أجرة الأوتيل»، وأعطى محمود جوابا مبهما. ثم دندن عبد الوهاب إحدى أغانيه لكي يخدر أعصاب صديقه، وبعدها وضع العود جانبا وقال: «معقولة دي يا محمود، أم كلثوم بتدفع أجرة أوتيل»؟ وقال محمود «عشرة أيام». فقام الموسيقار وخرج تاركا محمود في بيته ومشى لا يصدق. معقولة يا محمود.

إلى اللقاء