درس الحالة المصرية .. مأزق الكيانات الموازية ..!

TT

حدث عرضي في نظر العديد من المتابعين للشأن المصري لا سيما الحالة الإسلاموية .. فالعرض العسكري لطلبة الإخوان والاتحاد الحر بجامعة الأزهر الذي استعرضوا فيه مهاراتهم في الكونغ والكاراتيه أمام مكتب رئيس الجامعة ، لكن الحدث ليس كذلك لكثير من النخب السياسية والثقافية التي ترى أن الخيار السلمي لحركات الإسلام السياسي ما زال يدعو للقلق .. ما جرى تم تفسيره بشكل متباين وربما متناقض كعادة المحللين وانتماءاتهم، بل ومواقفهم الشخصية من الجماعة ذاتها. لكن حديث الصورة كان معبراً وموحياً بالكثير من القلق حول مستقبل العلاقة بين الأنظمة وهذه الجماعات، أو ما باتت تعرف بـ«الكيانات الموازية» وقد تم نشر مقتطفات من ذلك الاستعراض على قناة أوروبت، ضمن برنامج القاهرة اليوم، وتمت تغطيته في صحيفة المصري اليوم.

الإخوان يؤكدون أن ما نشر لا يعدو أن يكون عن فقرة «تمثيلية» ضمن برنامج الاعتصام المفتوح بالمدينة الجامعية، الذي كان عبارة عن أناشيد إسلامية وفقرات تمثيلية منوعة، كما أن المرشد العام محمد مهدي عاكف نفى بشكل قاطع أنه أصدر أي تعليمات لطلبة «الإخوان» تحثهم على القيام بعرض «شبه عسكري» لاستعراض القوة، للمطالبة بإلغاء قرارات فصل طلبة الاتحاد الحر.

ربما كان صحيحاً ان الجماعة وعلى مدى ثلاثين عاماً من أصل أكثر من ثمانين عاماً على التأسيس لم تسجل ضدها أي من عمليات العنف الديني بمعناه المسلح، إلا أن ذلك جاء في سياقات طويلة لها صلة بالمناخ العام للدولة وتغير الحالة السياسية المصرية ، إضافة إلى أن الجماعة أخذت تتمدد في الطبقة الوسطى ذات الخلفية العلمية والاجتماعية الجيدة ، مما كان له تأثير على الجماعة. وهذه نقطة مهمة لا سيما للذين دائماً ما يقعون في الخطأ ذاته، حين يقرأون التأثير دون التأثر، وكأن حالة التماس مع أفكار جماعة ما هو من طرف واحد فحسب.

ما يدعو للقلق من وجهة نظري هو بقاء حالة «الزئبقية» في موقف الجماعة وتصريحاتها بعد كل حادثة تشير بأصابع الاتهام إلى مدى إيمانها بالخيار السلمي، بدل أن تكون حاسمة وتتخذ خطوات جريئة ومبادرة من شأنها أن تحصر هكذا أفعال في دوائر ضيقة جداً، وإذا كانت الإدانة الخجولة أو التبرير البارد متفهما في جناح الصقور كما يسمى ، فإني لا أتفهمه أبداً من شخصية منفتحة تمتلك وعياً متقدماً داخل الجماعة كشخصية عبد المنعم أبو الفتوح، الذي ارتأى أن الأمر لا يدعو للانزعاج، فهو «أمر طبيعي على الرغم من كونه خطأ، وقام به الطلاب بدواع نقية وطاهرة»، طبقاً لجريدة المصري اليوم.. ولا أدري هل فات السيد أبو الفتوح أن أكثر حركات العنف دموية في تاريخ الإسلام «الخوارج»، هم أكثر الناس تديناً ونقاوة وبساطة ومبدئية.. كما أن كثيراً من المنخرطين في تنظيم القاعدة قادتهم تلك النقاوة الساذجة إلى تبني الخيار المسلح، كنوع من الخلاص وتطهير هذا العالم، وفق تصور حاد يقسم الأرض إلى فسطاطين لا ثالث لهما.

والسؤال الملح الذي تطرحه مثل هذه الحادثة العرضية هو إلى أي مدى يمكن أن تتشابه الحالة المصرية مع حالات كثيرة في المنطقة، إذا ما أخذنا في الاعتبار نفس الظروف والمناخات التي تعيشها جماعات الإسلام السياسي هناك..؟ أعتقد أن ثمة إشكالية تحدق بالداخل السياسي لكثير من الدول العربية في ظل وجود ما بات يعرف بالكيانات الموازية، التي ولدت بشكل خداع وليس في سياق طبيعي إبان استخدامها كورقة ضغط ونقاط دعم في الحرب الباردة .. لاحقاً شكلت هذه الكيانات عبئاً على الواقع المحلي، لأنها تحولت من الاكتفاء بدور الحفاظ على الهوية إلى الطموح، للعب دور في العملية السياسية ذاتها، ومع ذلك ظلت تعاني من حالة حصار حتى في الدول التي تتبنى إجراءات ديمقراطية بسبب غياب خيار «الإدماج» لأسباب كثيرة، يعود الجزء الأكبر منها إلى فكر هذه الجماعات الإشكالي تجاه قضايا كالمواطنة والاعتراف بطبيعة الدولة القطرية، بعيداً عن شعارات الخلافة والحل الشمولي وكل تلك المفاهيم الثورية التي تتمترس بها دون أن تعي طبيعية النسبية لأي عمل سياسي براغماتي.. وبالتالي حتى بعد وصول كثير من الأحزاب السياسية المتفرعة من تلك الجماعات إلى السلطة، ما زالت هناك مشكلات ضخمة وقضايا معقدة، جعلتها تترنح كثيراً من حيث أدائها السياسي كحالة التناقض والاختلاف بين الكوادر السياسية داخل الحزب، وبين صف الدعاة والتربوييين وكل ما له صلة بالخطاب الدعوي الذي تأسست عليه مشروعية هذه الجماعات في الأصل. وبالتالي أصبح الحفاظ على هذه المشروعية هو الفارق الوحيد الذي يجعلها موضع ثقة الأنصار والأتباع وتعاطف الجماهير العريضة التي تنظر إليها نظرة مقدسة مستعلية على كل التجارب السياسية الأرضية، المدنسة بوحل الاخفاق والفشل والفساد، والقعود عن نصرة الأمة كما يتم ترديده عادة.

في نهاية المطاف ما جرى لم يفعل أكثر من إعادة فتح ملف أزمة العلاقة المعقدة بين السلطة وبين جماعات الإسلاموية من جهة، في ظل حذر وتردد وحيرة الكثير من النخب الثقافية والسياسية، التي ما زالت تفتقد البوصلة بين إيمانها العميق بضرورة إدماج كل الفئات الاجتماعية في العملية السياسية، كحق مشروع ومبدئي، وبين الخوف من الانكفاء على جوهر الديمقراطية ذاتها، أي شنقها بحبل يديها كما يقال، وبين هذا كله يجب الخروج بمبادرات ثقة بين جميع الأطراف، أشبه ما تكون بميثاق شرف يرسم بموجبه خطوطاً حمراء، تجاه كل ما يناقض الخيار السلمي وحقوق الإنسان والوحدة الوطنية وملف الإرهاب .