كل شيء خلقه الله معجزة!

TT

ونحن صغار كان يقال لنا: من يفتح حبة قمح يجد اسم الله مكتوبا عليها.. وكنا نفتح حبة القمح.. وكنا نجد اسم الله مكتوبا..

ولم نكن نعرف ونحن صغار ـ لأننا صغار ـ أن حبة القمح معجزة في ذاتها.. وأن الله ليس في حاجة الى أن يوقع باسمه الكريم عليها..

كم حبة ـ بل كم معجزة ـ كم بذرة.. فى ملايين الملايين الملايين من الأشجار.. وكم لونا.. وكم شكلا وحجما وطعما ووزنا وحلاوة ومرارة .. كم عدد هذه الحبوب اللانهائية.. وكلها أدلة على عظمة الله؟

والكاتب، إنما يحاول ان «يقترب» من الله عندما يضع اسمه على كل شيء.. وعينه على كل لون.. وأذنه على كل صوت.. وانفه على كل عطر، واصبعه على كل جسم..

ثم يقول: إننى هنا.. إنني موجود أيضا.. أرى وأسمع وأتذوق.. وأحب وأكره.. وبعد ذلك كله يمسك قلمه ليقول.. فيضيع قلمه على الورق ويترك القلم يجري وراء ظله.. أو يتركه يلاحق لعابه الأسود.. وكما أن العين لا بد أن ترى .. والأذن لا بد ان تسمع، والأنف لا بد أن يشم.. والقلب لا بد ان يدق، فكذلك الآخرون..

الكاتب لا بد ان يقول ما فى نفسه وما في النفوس.. والكاتب فقط «يقترب» من الله.. ولذلك فهو لا يستطيع أن يرى كل شيء وان يسمع كل شيء.. وإنما فقط بعض الأشياء وبعض الأصوات وبعض المعاني..

وليس في استطاعة أحد أن يقول كل شيء عن أي شيء.. أو حتى عن شيء.. وإنما فقط ان يقول القليل عن القليل.. فالكاتب ككل إنسان: محدود.. لأنه يفكر في الدنيا من خلال بضعة ثقوب.. بضع فتحات: عيناه وأذناه وأنفه.. وهذه الفتحات ضيقة..

وهي فتحات في حوائط من نوع غريب اسمها: الأمل واليأس والخوف والحب والكراهية. فمن وراء هذه الحوائط نلمس الدنيا.. وتلمسنا الدنيا.. وهذه الحوائط تعزل الدنيا عنا..

وفى نفس الوقت تجعلنا نراها أوضح.. ان هذه الحوائط مثل زجاج النظارة.. مثل زجاج الميكروسكوب.. والتلسكوب.. هى حوائط شفافة تقف بيننا وبين العالم حولنا.. ولكنها تقربه وتوضحه.. فهذه الحوائط ترى بعيوننا، ونرى بعيونها ـ كما قال الشاعر القديم.. ومعنى ذلك أننا نرى الدنيا من خلال ثقب في ثقب في حائط.. أي من عين بعد عين.. الى هذه الدرجة يصبح عالما محدودا.. عالم الكاتب والفنان.. ولكن الكاتب، رغم ذلك، يحاول أن يرى أبعد. ويسمع أعمق، ويلمس أرق.. ويشم أكثر..

ولا أحد قال كل شيء.. ولا استطاع!! وكل كاتب يحاول.. ويكفى أنه حاول.. وما أجمل ما قال الأديب العظيم أوسكار وايلد عندما عاب الناس على أحد عازفي البيانو انه لم يحسن العزف فقال: لا تلوموا العازف.. انه يبذل أقصى ما يستطيع! وكلنا ذلك العازف! وكلنا يعزف على أوتار نفسه.. ليسمعه ويراه الآخرون!