الوصفة السودانية المخطوفة

TT

بين كلمة الملك عبد الله عبد العزيز في افتتاح القمة الخليجية السابعة والعشرين في الرياض وبمشاركة القادة الستة للمجلس وهم قلقون على الوضع في المنطقة كما لم يقلقوا من قبل، وبين كلام بطريرك الطائفة المارونية في لبنان نصر الله صفير في عظته الأسبوعية في اليوم التالي، جاءت المبادرة السودانية ـ العربية تبعث في النفس بعض الأمل في تحقيق انفراج في الوضع اللبناني يمهد الطريق أمام أسلوب التحاور بديلاً لأسلوب التظاهر واقتراف أسلوب التجريح والتخوين والتوصيف. وهذه الملاحظة بالذات هي برسم الوزير والنائب احمد فتفت وتشبيهاته النيرونية عند التعليق على كلام للأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله، وهي تشبيهات نحن في غنى عنها، ذلك أن المطلوب تبريد المشاعر وليس اضافة المزيد من الحطب التي تزيد النار اشتعالاً.

في كلمته التي هي من نوع ما قل ودل قال الملك عبد الله «إن منطقتنا العربية محاصَرة بعدد من المخاطر وكأنها خزان مليء بالبارود ينتظر شرارة لينفجر. إن قضيتنا الأساسية قضية فلسطين الغالية لا زالت بين احتلال عدواني بغيض لا يخشى رقيباً أو حسيباً وبين مجتمع دولي ينظر إلى المأساة الدامية نظرة المتفرج، والخلاف بين الأشقاء هو الأخطر على القضية. وفي العراق الشقيق لا زال الأخ يقتل أخاه ويوشك هذا الوطن العزيز أن ينحدر من الظلام إلى الفرقة والصراع المجنون. وفي لبنان الحبيب نرى سُحباً داكنة تهدد وحدة الوطن وتنذر بانزلاقه من جديد في كابوس النزاع المشؤوم بين أبناء الدولة الواحدة. وفي خليجنا هذا لا يزال عدد من القضايا معلَّقاً ولا يزال الغموض يلف بعض السياسات والتوجهات...».

ويلفت الانتباه هذا التميز من جانب الملك عبد الله في العبارة المتعلقة بلبنان، حيث وصَفَه بأنه «البلد الحبيب» منبِّهاً إلى مخاطر فوضى الشوارع وإن كان تفادى التسمية مكتفياً بالإشارة إلى أنها «سحب داكنة تهدد وحدة الوطن».

وفي عظته الأسبوعية قال البطريرك صفير «إن ما نشهده هذه الأيام مختلف كل الاختلاف وهو ينذر بالشر المستطير. والشاعر يقول: (وإن الحرب أولها كلام). فإذا كان ما نسمع من تراشُق ملؤه الإقذاع والتحقير والتجريح فإن الحرب وشيكة الوقوع، لا سمح الله...». ويلفت الانتباه اتساع هامش خوف البطريرك صفير الذي ما زال حتى الآن يحاول قدر الاستطاعة تقريب المواقف في الصف المسيحي متحاشياً اتخاذ الوقفة الحاسمة التي في حال هو اتخذها لكان الخوف من الشر المستطير تراجَع كثيراً.

وسط هذا القلق من جانب الملك عبد الله بن عبد العزيز رمز الحرص العربي على لبنان ومن جانب البطريرك صفير وهما يخشيان تداعيات السحب الداكنة على الكيان والشعب خصوصاً أن تجارب الماضي، او فلنقل محنة 1975 وما تلا ذاك العام من احتراب وكوارث ودماء وفوضى كان من شأنها تهاوي الكيان، جاء المسعى السوداني المتجدد الذي كانت فرصة نجاحه واردة أكثر من السابق... لولا. وهنالك حيثيات عدة للنجاح من بينها أن السودان يدرك مدى حساسية الناس من الهيمنة التي سبَقَ أن خَبِرَها في مرحلة من مراحل العلاقة مع مصر ويمكنه تذكير الرئيسين بشَّار الأسد ومحمود احمدي نجاد بها. كما انه لا يتطلع إلى أكثر من تقديم نجدة للبنان مستندة إلى تجربة مثالية له في مجال حل المشاكل المستعصية، أي بكلام آخر ان موقفه من لبنان ليس مثل موقف النظام السوري ولا مثل موقف النظام الإيراني، وكلاهما نظامان تربطهما بالنظام السوداني أفضل العلاقات ويتمنى لبنان الدولة ان تكون علاقتهما معه مثل تلك العلاقة المشار إليها لا أكثر.. أي التفهم الواقعي للسيادة، والتعامل على قاعدة الند للند. أما لبنان الحزب والحركة ومعهما حلفاء يتطلعون إلى أن يكون لهم حضور او شأن من خلال المؤازرة فهؤلاء يحلقون في المدار السوري ـ الإيراني ولا يبدلون تبديلاً. ثم إن تجربة حل مشكلة جنوب السودان التي هي ام المشاكل المستعصية تؤهل النظام في السودان لكي يبتكر لحل الأزمة بدل الصيغة عشرات الصيغ، فضلاً عن انه صبور ولا ييأس عملاً بأنه حاصل على الثواب ما دام اجتهد وبذل من السعي ما يعكس حسن النوايا والحرص.

ومن محاسن الصدف ان المسعى حدث في ظل ترؤس السودان للقمة العربية الدورية وان مَنْ يتولى السعي هو الدبلوماسي المحنك مصطفى عثمان إسماعيل مستشار رئيس الجمهورية الذي منذ اللحظة الأولى أوحى بأنه في ما يقوم به هو تكليف عربي اكثر مما هو دور سوداني وإن كان التكليف المشار اليه لم يصدر في صيغة بيان من الجامعة العربية. لكن عندما يرجئ الأمين العام عمرو موسى السفر إلى نيويورك لتوديع الامين العام كوفي انان ويعود الى بيروت عبر القاهرة من واشنطن حيث تحادث في الموضوع اللبناني مع وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس، في انتظار معرفة النتائج الاولية للمبادرة السودانية من صديقه وحليفه في المداولات العربية وراء الكواليس مصطفى عثمان إسماعيل، فهذا مؤشر إلى أن المسعى السوداني هو موضع الرضى والقبول من جانب اكثرية الدول الاعضاء فضلاً عن انه موضع رضى كل الاطياف السودانية المعارضة برموزها الأساسية السيد الصادق المهدي والدكتور حسن الترابي والسيد محمد عثمان الميرغني الذين كنا نتمنى لو يتمثلون في المسعى السوداني وإن بشكل غير رسمي جاء التمثيل، لأنهم بذلك كانوا سيؤكدون ان السودان بجناحيه الحكومي والمعارض يريدون التهدئة للبنان بجناحيه الحكومي والمعارض ايضاً. ولدى مصطفى عثمان إسماعيل ساعي التوفيق بين طرفي المبارزة في لبنان والذي هو احد قلائل بين المستشارين في الدواوين الرئاسية ودواوين الحكم عموماً الذين يستشارون من قبل الرؤساء، ويكون هنالك اصغاء لرؤاهم وتقبُّل لأفكارهم، من الأمثلة حول ايجابيات المرونة وسلبيات العناد الكثير مما أمكن وضعه أمام أطراف ألازمة اللبنانية، ويكفي تدليلاً على ذلك كيف انه في مرحلة من مراحل التفاوض بين الحكومة السودانية والفريق الجنوبي المتمرد عليها ويخوض مع الجيش السوداني حرباً بالغة الشراسة. كان هنالك إصرار على ان يكون النائب الأول لرئيس الجمهورية في المرحلة الانتقالية هو جون قرنق الذي يقود حركة التمرد وان علي عثمان طه الذي يشغل المنصب الى جانب الرئيس عمر البشير آثر، وهو الرجل الأقوى بين مدنيي «الانقاذ»، إتمام الاتفاق.. وإن كان ذلك على حسابه فارتضى إهداء المنصب إلى قرنق والبقاء بمنصب نائب رئيس الجمهورية، ومن دون ان ينال ذلك من مهابته لدى الناس وتقديرهم لخطوته، بل على العكس إن الخطوة التي تتسم بالتضحية تركت في نفوس الرأي العام الأثر الطيب وغدت امثولة من جملة امثولات يستطيع مصطفى عثمان إسماعيل استحضارها سواء مع اخواننا اهل الحكم في سورية أو مع أطراف الصراع في لبنان... وبالذات مع صديقي السودان منذ ما قبل اغتيال الشهيد الرئيس رفيق الحريري بعدة اشهر وهما السيد حسن نصر الله الأمين العام لـ«حزب الله» الذي يحرص المبعوثون السودانيون إلى لبنان دائماً على لقياه والسيد فؤاد السنيورة رئيس الحكومة المحاصَرة من جانب جماهير «حزب الله» و«حركة امل» وبعض الاطياف المسيحية التي ترى تأجيل الاستفسار من الجنرال ميشال عون عن امور كثيرة الى ما بعد هذه المعمعة التي قضت بمحاصرة الرئيس السنيورة بالأسلوب نفسه الذي حاصر به ارييل شارون مقر الرئاسة الفلسطينية في رام الله... لكن الرئيس ياسر عرفات، وكما الآن الرئيس السنيورة حماه الله من التسميم، آثر الصمود اسيراً على «تحريره» ذليلاً.

تبقى مسألة قولنا إن فرصة نجاح المبادرة السودانية كانت واردة اكثر من السابق... لولا. والجواب عن ذلك أن المبادرة خُطفت على ما يجوز الافتراض بإيحاء من الرئيس حسني مبارك إلى ابن مصر المحروسة عمرو موسى لكي يتحرك، وذلك لأنه من غير المعقول أن يكون السودان هو المبادر لحل معضلة العصر العربي الحالي ولا تكون الدولة العربية الأكبر مصر هي المبادِرة... ومن دون أن يشفع للسودان أن رئيسه عمر حسن البشير هو «رئيس كل العرب» لفترة زمنية تنتهي يوم 27 مارس المقبل.