مقدمة لجغرافيا الثأر.. صعيد مصر كحالة

TT

رغم ان أهلي أشاروا علي بعدم الخوض في هذا الموضوع المعقد في مجتمعنا الصعيدي المفرط في الحساسية‏،‏ الا ان سؤال الثأر وكذلك بعض مظاهر وتجليات الحياة الصعيدية الحديثة، بدأت تنحو منحى لا يحتمل السكوت عنه، هنا سأتعرض للظاهرة رغم خطورتها من حيث الجذور واضطراب طرق الحل‏،‏ وكذلك عولمة الثأر وأثره على علاقات الدولة بدول الجوار‏،‏ متمنيا ان يغفر لي اهلي الخوض في امور قد يرونها عورة مجتمعهم‏،‏ أمور لا يصح إماطة اللثام عنها او كشف سرها.

‏1‏ـ مقدمة لا بد منها

تركت اهلي في صعيد مصر لفترة تصل الآن الى ‏20‏ عاما‏،‏ هي منتصف عمري بالضبط او تكاد‏،‏ وجوه رحلت عنها ولم ترحل عني‏،‏ أسافر بهم أحيانا‏،‏ تلك الوجوه الداكنة السمرة التي تثبت العالم لدي‏،‏ وفي كل مرة أعود إليهم أراهم في حالة أسوأ‏،‏ حالة ارتداد سمها عنف الحداثة‏،‏ ولهم في ذلك اعذار عدة‏،‏ فرضتها عليهم علاقاتهم بالعاصمة‏،‏ وبدول الجوار حيث يعملون‏،‏ وكذلك علاقتهم بمنظومة القيم السائدة والمتغيرة‏،‏ كل مرة ازور فيها الصعيد لا ارى تخلفا وإنما أرى تخلفا يمور يترقرق كماء البحر غير مستقر وشاخص نحو أفق بعيد‏،‏ لكنه مجتمع يمشي كالنائم بلا هدف‏،‏ البعض تعدى حالة المشي نائما الي حالة ما يسمي عندنا بالموت بالحيا او الميت الماشي‏.‏ هذا الوصف القاتم لا ينكر على الدولة مجهودها في اصلاح البنية التحتية للصعيد‏،‏ فالصعيد الآن على مستوى البنية التحتية أفضل بكثير مما كان‏،‏ ففي الوقت الذي لم تدخل فيه الإنارة الكهربية قريتي الا وأنا طالب في السنة الاولى من الجامعة ‏(1977)،‏ تجد القرى الآن بها الخدمات من الكهرباء حتى الانترنت لكن رغم هذا التقدم على مستوى العتاد ‏HARDWARE‏ والتجهيزات من حيث الطرق وغيرها‏،‏ المشكلة في جزء كبير منها هي مشكلة «سوفت وير» او البرامج والمنظومة الثقافية المسيطرة على الذهنية في الصعيد‏،‏ هذا البرنامج المسيطر على العقلية الصعيدية ليس برنامجا محليا كما قد يحلو للبعض ان يصوره‏،‏ هذه الرؤية التي تري تخلف الصعيد علي انه راجع إلى ظروف لا تخص هذا المجتمع وحده هي رؤية أسميها‏ «الاستشراق المحلي‏» رؤية اشبه برؤية الغربي للشرق الآن ولكن مثقفي العواصم يمارسونها على الصعيد‏.

‏ مشكلة الصعيد متعددة الجوانب والأوجه وفي اختزال هذه المشكلة الى ذهنية التخلف فقط وإلقاء اللوم على الفرد الصعيدي هو نوع من التخلي عن المسؤولية‏،‏ الصعيد الآن يتجه الي العنف اكثر مما مضى رغم مظاهر التقدم وانخراط ابنائه في التعليم‏،‏ هذا العنف يتجلى في القتل بهدف الثأر أو في ارهاب الجماعات المدعوة مجازا اسلامية‏،‏ رغم انها في جوهرها لا تختلف عن ممارسات الجماعات في إيطاليا‏،‏ والذي تشكل نسبة التخلف فيه تخلف الصعيد مع الاحتفاظ بالفارق بين روما والقاهرة‏،‏ هذا العنف الناتج عن خلل علاقة روما بالجنوب الايطالي ادى الى ظهور المافيا في بداية عصر الصناعة‏،‏ وها هي مصر تدخل نفس النقطة في مسار التنمية لتنتج مافيا الصعيد. هذه المافيا لا بد ان تبحث عن غطاء مقبول في البيئة المحلية‏،‏ فمرة يتغطى هذا السلوك بالإسلام فنطلق عليه عنف الجماعات الإسلامية‏،‏ ومرة يتغطى بالعادات والتقاليد فنطلق عليه مصطلح الثأر‏،‏ ولكن الحقيقة المرة هي ان مصر تدخل مرحلة حرجة من حيث الحراك إلى اسفل والى اعلى، وبشكل أفقي أيضا مما يخلخل البنية الاجتماعية الصعيدية‏،‏ ويجعلها في حالتها المضطربة التي نراها الان‏،‏ والتي تقع مسألة علاجها في المقام الاول من بداية فهمها‏،‏ ورغم إنني قريب وبعيد في نفس الوقت من هذه الظاهرة إلا انني اشك في قدرتي الموضوعية وذلك لقربي العاطفي من الحالة الصعيدية‏،‏ لذا ادعو الباحثين المهتمين بهذه الحالة لمحاولة مقارنتها بجنوب ايطاليا وكذلك جنوب المكسيك حتي يتسنى لنا معرفة العوامل الجوهرية المحركة لظاهرة العنف هذه ونتجنب القاء اللوم كله على عامل الاسلام‏ او عامل الثقافة الصعيدية والعادات والتقاليد‏ (‏في حالة الثأر‏).‏ هذه المقارنة مع مجتمعات ذات عادات مختلفة تقاسي من تبعات نفس العنف قد توضح لنا الصورة بشكل أوضح وأكثر علمية.

‏2‏ـ ملاحظات اولية لا بد منها:

لن احاول ان أشيئ الصعيد وادعي استمرارية للعنف هي في حقيقة الامر متقطعة‏،‏ لكن الثابت هو ان جغرافيا العنف وكذلك تاريخه في الصعيد هو امر عصي على البحث ذلك لان القريب منه مشكوك في موضوعيته اما البعيد عنه فهو في جهله مثار ضحك واستهزاء‏،‏ ذلك لان معظم ما كتب عن الصعيد‏،‏ باستثناء بعض كتب الرحالة في بداية القرن وخصوصا كتاب باحثة انثروبولوجية من جامعة اكسفورد في عشرينيات القرن بعنوان عادات وتقاليد اهل الصعيد‏،‏ لم تكتب عن الصعيد كتابات ذات بال‏،‏ وهنا استثني من ذلك السير الشخصية لعظيمين من الصعيد هما طه حسين والدكتور لويس عوض‏،‏ وكذلك دراسة الدكتور حامد عمار عن تربيته في قرية صعيدية‏،‏ وكانت دراسة ميدانية اذكر انه قال في مقدمتها انها كانت رسالته لنيل درجة الدكتوراه‏.‏ كان ذلك في الستينات‏،‏ ماعدا ذلك فلم نعرف عن الصعيد الا من الروائي محمد مستجاب في ديروط وغيرها‏،‏ وذلك قبل ان ينصرف مستجاب الى الشأن القاهري‏.‏ كذلك عرفنا الصعيد الخاص في حالة كتاب النوبة مثل ادريس علي والمرحوم ابراهيم فهمي‏،‏ اما الابنودي فقدم لنا الصعيد شعرا عاميا ولكنه جاء على غرار ما سميته باسترخاء ظاهرة الاستشراق المحلي‏،‏ اي قدم لذلك الذي تتقبله القاهرة‏،‏ الصعيد النمط‏،‏ اي ما يمكن تسميته اعادة انتاج الصعيد لإرضاء المستهلك القاهري ذي الرؤية المنحازة سلفا.

اما مدارس العلم في الصعيد والمشار اليها بالجامعات مجازا فلم تقدم لنا بحثا يستحق الوقوف عنده في سوسيولوجيا الصعيد وخارطته الاجتماعية والقبلية‏،‏ ذلك باستثناء واحد لورقة بحث قدمها استاذ بجامعة اسيوط‏،‏ لا يحضرني اسمه الان‏،‏ استاذ للعلوم السياسية تحدث عن تنمية التطرف‏،‏ وكانت ورقة جادة‏،‏ بعدها كتب الصحافي المعروف احمد عمر في التسعينات كتابا خاصا بأسيوط سماه اسيوط مدينة النار. كان ذلك في اوج عنف الجماعات المتمسحة بالإسلام كغطاء‏،‏ رغم انها كما ذكرت سلفا لم تتعد كونها‏ ‏جماعات عنف على غرار الجماعات الصغيرة بالمدن‏.‏ اذن حالة البحث العلمي فيما يخص الصعيد حالة في اسوأ ظروفها لا تبرر ما ننفقه على جامعات الصعيد من مال‏.‏ عندما زرت الصعيد ثلاث مرات خلال العامين الفائتين لم اجد باحثا واحدا لديه فكرة مكتملة عن خرائط الصعيد القبلية أو الاقتصاد السياسي لبلدان الصعيد‏. اذكر انني كنت في حوارات في قنا والأقصر مع بعض الاصدقاء وطرحت عليهم فكرة أن للعنف ظروفا تاريخية يجب بحثها‏،‏ القيت عليهم مقدمة لبحث كنت قد قمت به عن العنف في الصعيد في فترة اسماعيل باشا‏،‏ وخصوصا في الفترة من‏ ‏70‏ ـ 1868‏ تلك الفترة التي ارسل فيه افندينا تجريده لتأديب قرى البعيرات والسلامية وغيرها‏، ‏كانت تلك المرحلة كما يقول استاذنا تشارلز عيساوي رحمه الله استاذ تاريخ الاقتصاد المصري بجامعة برنستون الامريكية‏،‏ اذ كان يرى ان تلك الفترة التي تداخل فيها الاقتصاد المصري بالاقتصاد العالمي، نتيجة لتغير اسعار القطن في فترة الحرب الاهلية الامريكية كانت فترة تحولات كبرى في المجتمع المصري‏،‏ ادت الى اختلال التوازن بين العاصمة والأطراف خصوصا في الصعيد‏،‏ حيث تعددت إضرابات النسيج في قنا خصوصا‏،‏ سبب ارسال هذه التجريدة هي ان تابعي احد الدراويش قام بالاعتداء على سياح المان كان ذلك عام ‏1868‏ وقد ارخت لهذه الواقعة الرحالة الانجليزية لوسي دوف جوردون والتي كانت تعيش في الاقصر في تلك الفترة تعالج من مرض الربو بدفن نفسها في الرمال.

لم تستمع قاهرة اسماعيل باشا ولم تفهم حجم التحولات التي حدثت في الصعيد‏،‏ فبدلا من تدارس اسباب هذا العنف المفاجئ الذي استمر اربعة اعوام‏،‏ قررت ادارة افندينا إرسال تجريدة لتأديب المارقين بنفس الاسلوب الذي كان متبعا مع حركات التمرد في السودان‏.‏ حالة مصر في الفترة من ‏70‏ ـ‏1888‏ كانت واضحة في ذهني مع مصر‏1992‏ ـ‏1995،‏ فترة عنف التطرف‏،‏ ولكن العلاج هذه المرة كان مبنيا على بعض الفهم خصوصا انه جاء في شق تنموي وآخر أمني.‏ وبرغم ذلك ما زلت في ريب من أن الامر قد حسم تماما‏،‏ اذ أن زيادة عنف الثأر ما هو الا تجل آخر لظاهرة العنف التي اتخذت غطاء اسلاميا في التسعينيات‏. وبغض النظر عن دقة المقارنة ما بين حالة تدخل فيها مصر عالم العولمة والخصخصة، وحالة ما يسمى بارتباط الاقتصاد المصري بالاقتصاد العالمي ايام اسماعيل باشا‏،‏ الا ان المقارنة قد تفتح للباحث آفاقا اخرى في فهم الظاهرة وفهم التحولات المحلية وخصوصا في الصعيد‏،‏ اذا ما اضفنا الى المقارنة بين الفترات المتباعدة في التاريخ مقارنة جغرافية كما طرحت بدول تختلف عنا جغرافيا وتنمويا كمثالي الجنوب الايطالي والجنوب المكسيكي ـ كذلك اذا اضفنا نقطة اخرى تخص جدية الباحث‏،‏ فبدلا من ان يدعي صعيدي فصيح اللسان يقيم في القاهرة أنه يعرف الصعيد ليتحفنا بسطور منظومة اشبه للشعر منها الى الفولكلور‏،‏ يجب على الباحثين ان ينقبوا بحق عن استمرارية او تقطع ظاهرة العنف.

اول ما أتمنى ان ننحيه في فهمنا لهذه الظاهرة هي مقولات المقاهي التي ترى تفسير العنف في الصعيد في طبيعته الجافة والجبلية‏،‏ او في عادات توارثوها عن العرب‏،‏ كل ذلك قول مردود عليه وقول خائب‏،‏ ذلك لان الصعيد الحديث ليس امتدادا لصعيد العرب‏ .‏الصعيد يحتاج إلى الدراسة على اكثر من صعيد.

هذا ان اضفت الي هذا التغير الحادث للمنظومة الثقافية نتيجة حركة البشر بين البلدان‏،‏ جزءا آخر يخص كثيرين من القائمين علي الأمن في الصعيد هم ابناء نفس القبائل ونفس العشائر ونفس السياق الثقافي‏،‏ فليس من المعقول أن نتصور ان اربع سنوات في كلية الشرطة في الة كانت كافية إخراج الضابط الصغير من سياقه الثقافي‏،‏ هنا يكون ضابط الامن ذا قدمين احداهما في لب المشكلة والقدم الأخرى تحاول الحل‏.‏ وهنا لا اقترح ارسال ضباط ليست لديهم المعرفة المحلية ذلك لان جغرافيا العنف تتطلب طالبا يعرف هذا العالم الخالي من العناوين والذي يعرف الناس بعضهم بعضا بناء على خريطة محفورة في الاذهان لا يمكن وضعها على الورق‏،‏ ولكني اقترح مزيدا من التدريب على فهم تلك الجغرافيا‏،‏ جغرافيا العنف تلك الحالة الهلامية صعبة المنال والتي تتطلب منا كثيرا من الفهم الاولي قبل ان نبدأ بالعلاج‏،‏ على المدى‏،‏ وليس لمجرد انه طلب منا إعطاء التمام بأن الامور على ما يرام في خلال خمسة عشر يوما‏،‏ الموضوع اعقد من ذلك بكثير.

ولا شك أن الرئيس مبارك أعطى اهتمامه لجنوب الصعيد وأقام فيه مشروعات عملاقة مثل مشروع توشكا، كما أن الحكومات السابقة اهتمت بالصعيد من خلال مجموعة المصانع الخاصة بالألومنيوم وقصب السكر وكذلك مصانع الورق والإسمنت. في حالة المصانع الكبرى مثل مصانع السكر بقيت هذه المصانع وعمالها وساكنوها واحات منعزلة عن المحيط الخارجي. إذ أذكر أنني كنت طالباً بمدرسة قوص الثانوية في محافظة قنا في أوائل السبعينيات، وكان طلاب المصنع يأتون إلى المدرسة وكأنهم من عالم آخر من الأمريكان، لا يختلطون بنا ولا نختلط بهم، وكان معظمهم ينظر إلينا على أننا «أولاد الخلا» ويتعاملون معنا على هذا الأساس.

تبدو كلمة «الخلا» بسيطة فى ظاهرها ولكنها تحوي معاني عدة هي في رأيي أصل المشكلة. فعندما تقول إن هذا المكان «خلا» أو خلاء، فإنك بالضرورة تفرغه من البشر أو من ساكنيه، كما أن كلمة الخلاء فى الفقه تعني «بيت الخلاء» أو مكان قضاء الحاجة، في ظل سيادة رؤية «الخلاء» هذا يبقى جزءٌ كبيرٌ في الصعيد هو مقلب للنفايات، سواء كانت نفايات المصانع التى تصب في النيل وتلوثه بشكل يدعو إلى الحيرة، أو تلوث البيئة القادم من مصنع الورق في قوص والذي لا يضاهيه أي تلوث في العالم.

رؤية الخلاء أيضاً تجعل من القائمين على الحكم المحلي الآن ينظرون إلى تحسين واجهات المدن التي يقيمون بها، وتلقى النفايات في الريف، فتجد العمل على قدم وساق لتجميل واجهة محافظة ما في الصعيد، وتزرع الورود وتقام الجسور المؤدية إلى عاصمة المحافظة، ويهلل الإعلام المدفوع الأجر لتجارب تزيين المدن والواجهات، بينما يبقى ما خلف الواجهات هو مقلب للنفايات. فإذا نظرت خلف الورود التي ترحب بالزائر في طريقه إلى العاصمة وجدت المستشفيات المعطلة. وسأضرب مثلاً هنا من مركز نقادة محافظة قنا، والذي بقي فيه المستشفى المركزي لهذا المركز مغلقاً منذ عامين، وما زال حتى كتابة هذا المقال، رغم أنه مستشفى مخصص لخدمة مليون من البشر فى محيطه القريب إلا أنه لا يعمل، رغم استشراء أمراض كالفشل الكلوي وفيروس الهيباتيتس C فى المنطقة. إلا أن ذلك لم يدفع القائمين على التنمية للتعديل من أولوياتهم ووضع المستشفيات والمرافق العامة من صرف صحي وخلافه قبل استراتيجية الورود التي تحيط عاصمة المحافظة، وتترك القضايا الحيوية مثل البطالة وغيرها على أنها قضايا أهل «الخلاء» التي ترسل في اتجاههم نفايات المدن.

المشكلة الحقيقية في الصعيد هي أنك لا تستطيع أن تقيم الأوضاع دونما المساس بأصحاب المصالح من القوى الاجتماعية المختلفة، مثل رجال القبائل وأعضاء المجالس المحلية والوطنية. ومن هنا ينشأ الخلاف وتنشأ ايديولوجيا الثأر بالتحديد، وكذلك العنف بشكل عام، ذلك لأنه وفي غياب مؤسسات تفصل في الأمر بين المواطن وأخيه أو المواطن والدولة لا يبقى إلا العنف كحكم نهائي.