أيها الأخوة

TT

عام 1993 نشر الأستاذ في هارفارد صامويل هانتنغتون مقالاً في مجلة «فورين أفيرز» تحت عنوان «صدام الحضارات» (وليس صراعاً كما ترجم ولا يزال) وهو مصطلح كان قد أطلقه من قبل المؤرخ برنارد لويس المعروف بدعمه للحركة الصهيونية في أوروبا وأميركا. وأثار المقال جدلاً أكاديميا حول العالم، وثورة عاجلة في العالم العربي. وفي عام 1997 أصدر هانتنغتون كتابا يضم المقال نفسه ويضيف إليه دراسة حول الحلول التي يراها، وكان بعنوان: «صدام الحضارات وإعادة صياغة النظام العالمي». وآثار الكتاب جدلا واهتماماً أكاديميا وفكرياً حول العالم، وثورة غاضبة وسريعة في العالم العربي.

وكان بين الذين سارعوا إلى الغضب والاستنكار، الداعي لكم بطول العمر. فما دام صامويل هانتنغتون أميركيا، فالهدف من كتابه هو الإعداد لصراع الحضارات والتحريض لإشعاله.

بعد أيلول 2001 أعدت قراءة الكتاب بهدوء أكثر، ووصلت إلى نتيجة نهائية، وهي أنني لم اقرأه جيدا في المرة الأولى، بل قرأته كما أحب لا كما هو، وبعد حرب أفغانستان والعراق والشيشان، تساءلت، أين كان هانتنغتون موضوعياً أكاديميا، وأين كان مجرد مفكر غربي آخر له منطلقاته ومسلماته ومنطقه.

ثم عدت إلى الكتاب الآن بعدما وجدت أننا غارقون، ليس في صدام الحضارات، بل في صدام النزعات والقوميات والمذاهب والعرقيات والمناطق والأقاليم، ويتخذ هذا الصدام منحى همجياً متوحشاً يفوق أعراض أي «صراع حضارات متضاربة». وكان صدام الحضارات في القرون السابقة يؤدي إلى هدنات وتسويات واتفاقات، لكن الصدام الدائر حالياً قائم على فكرة الإلغاء الكلي والانتحار المتبادل ونشر الفوضى وتدمير سبل المعيشة وتحويل كل شيء إلى رماد، من أجل إعادة رسم الدول من جديد.

ولا ندري ماذا كان يقصد كولن باول عندما تحدث عن «إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط»، لكن الثابت حتى الآن أن مدينة تدعى بغداد يعاد رسمها دون هوادة وثلث العراق أصبح موزعاً بين سورية والأردن، بالإضافة إلى السويد وجاراتها. ومن السودان إلى فلسطين يقوم صدام الأشقاء لا صدام الأعداء، أو هكذا على الأقل يسمى التذابح في العالم العربي. فلا يقبل زعيم أو مسؤول أن يخاطب ضحاياه، إلا بعبارة أيها الإخوة.. البقية تأتي.

قال هانتنغتون، فيما قال، انه بعد الحرب الباردة سوف تتغير رموز الصراع الدولي من السياسات إلى الثقافات. وأن الناس تعيد اكتشاف هوياتها القديمة لكنها تسير بها تحت إعلام جديدة. وقال أن ثمة حقيقة مؤسفة وهي أن الشعوب الباحثة عن هوية لا بد لها من أعداء. وقال انه للمرة الأولى في التاريخ أصبح العالم متعدد الأقطاب الحضارية ولم يعد منقسماً بين قطبين محددين. ولم تعد الحداثة ملازمة للغرب لأن الغرب ينهار وقوى كبرى تنشأ في شرق آسيا. وقال إن توازن القوى يتغير، وان الحضارات غير الغربية تحاول إعادة تأكيد أهميتها. وقال إن مزاعم الغرب الكونية تقحمه في المزيد من الصراعات، وخصوصاً مع الإسلام والصين. وقال إن تجنب حرب كونية يتطلب قبول زعماء العالم وتعاونهم في سبيل تضافر الحضارات المتعددة.