قل لأبينا ولا تقل لأبونا

TT

كتب الفكاهة العربية مليئة بنكات وطرائف النحويين. وهو شيء طبيعي، فقواعد النحو تعطي ملعبا رائعا للهو التنكيت بكل براعاتها ولوذعياتها ومقالبها. لا ادري لماذا يذهب الناس للسينما وامامهم هذه السينما اللغوية المجانية. بالطبع اكثر ما بيدنا من النكات النحوية مؤلفة ومخترعة. انه الشيء الوحيد الذي نستطيع اختراعه. ولكن الأب انستاس ماري الكرملي ترك لنا تقليعة افضل من كل ما سمعته عن النحويين. كان الكرملي راهبا في كنيسة اللاتين في بغداد. وكان مهووسا بقواعد اللغة العربية ومتزمتا فيها. كان مجلسه او ديوانه الذي يعقده في الكنيسة عصر كل يوم جمعة بعد ان يكون المسلمون قد ادوا فريضة صلاة الجمعة واليهود لم يدخلوا بعد بسبتهم. ففي ديوانه اعتاد حتى مشايخ الاسلام كالشيخ جلال الحنفي وكهنة اليهود كمير بصري على التردد عليه مع حشد كبير من الادباء والفقهاء والمثقفين كروفائيل بطي وعباس العزاوي ومصطفى جواد وميخائيل عواد.

كانت هناك لوحة في صدر الديوان تقول «ممنوع التحدث في الدين والسياسة». تجلس عندئذ وتتساءل فما الذي سنتحدث عنه اذن؟ فهذان هما الموضوعان اللذان لا يحلو أي مجلس عربي بدون التحدث فيهما. ما الذي بقي للحديث؟ آه طبعا هناك الكلام عن النساء، ولكننا هنا بدير كنيسة كاثوليكية وفي مجلس راهب لا شأن له في أي من ذلك. بقي حديث اللغة والادب. وهو ما كان. فأبونا الكرملي كان عالما معروفا في هذا الميدان في سائر البلدان العربية.

كثيرا ما احتدم النقاش في ديوانه بشأن أتفه المعضلات النحوية. من ذلك ما جرى بينه وبين مصطفى جواد، المتزمت الآخر في الموضوع وصاحب عمود «قل ولا تقل». استاء منه ابونا بصورة خاصة لأن مصطفي جواد كان تلميذه. وعلمه الرماية فلما اشتد ساعده رماة. كانوا جميعا بمن فيهم المشايخ يسمونه «ابونا». وبهذه الصفة تسلم يوما صكا يقول ادفعوا لأبونا انستاس ماري الكرملي ثلاثين دينارا فقط. ما ان رأى القس ذلك الصك حتى اخرج قلمه الازرق وشطب كلمة لأبونا وصححها الى «لابينا». قدم الصك للبنك فرفضت الموظفة تسلمه لوجود شطب فيه. أفهمها سر التصحيح. ولكنها لم تعبأ بذلك. نصحته بأن يذهب الى صاحب الصك ليوقع على التصحيح او يحرر صكا جديدا. ما كان من ابونا الا ان ثار وازبد وعربد. كل هذا الاستهتار باللغة! يريدون ان يتجاهلوا حرف الجر الذي يجر حتى الجبال. قال للموظفة : من اجل ثلاثين دينارا تريدين مني ان اتجاهل حكم الجار والمجرور بحرف الجر! اخذ الصك من يدها ومزقه في وجهها وخرج.

أشرت الى التصحيح بالقلم الازرق. لقد سأله صديقنا نجدة فتحي صفوة. قال له ان التصحيح يكون عادة بالقلم الاحمر. فاجابه ابونا، هذه كلها بدع ما انزل الله بها من سلطان. فالعرب كانوا يمجدون اللون الأحمر. يثنون على الخد الاحمر والوردة الحمراء والثوب الاحمر. ويكرهون الازرق، لون عيون الافرنج. وعليه ينبغى استعمال القلم الازرق للخطأ والأحمر للصواب. وهو ما كان يفعله بقلم من رأسين، ازرق واحمر. يشطب بالازرق ويستحسن ويؤيد بالأحمر.