أمن بغداد: فرصة التغيير الأخيرة

TT

يكتسب أي تمرد مسلح قيمته من قدرته على إضعاف فعالية السلطة المركزية، وإجبارها بالتالي على الانهماك بجهود مكلفة في مواجهة هذا التمرد عسكريا، أو الرضوخ لبعض إرادته سياسيا، وفي الحالتين يحقق التمرد جزءا من أهدافه. وبالطبع كلما كان الأداء العسكري لفصائل التمرد قريبا من المركز، كان مستوى تأثيره على صعيد هذه المعادلة اكبر.

من هنا تأتي القيمة الأساسية للتمرد في العراق، فهو أولا يمارس بعض أهم عملياته في الرقعة الجغرافية المباشرة للحكومة المركزية، مما يجعلها في حالة تهديد متواصلة، وثانيا يرغمها على أن تجعل أولويتها الأساسية مواجهته وبالتالي تحمل التكلفة الباهظة لهذه المواجهة أو التنازل أمامه وتحمل التكلفة السياسية لهذا التنازل.

وقد تراوحت مستويات وأشكال رد الفعل الحكومي تجاه التمرد في العراق بين المواجهة العسكرية والتعاطي السياسي، وتفاوتت مستويات المعالجة بحسب الظرف السياسي والعسكري والاجتماعي، إلا أنها في الغالب لم تنته إلى نتيجة يمكن وصفها بـ«الحاسمة». أهم سبب لهذا الجمود الذي يبدو أحيانا كثيرة «تراجعا»، هو غياب خطة واضحة وشاملة ومنظمة قادرة على تحديد الهدف بوضوح، ووضع خطوط نهائية لما يدخل في إطار العمل العسكري وأخرى لما يدخل في إطار الجهد السياسي. من الواضح أن هناك تكلفة ستدفع، لكن التكلفة ستغدو اكبر عندما تفشل في معرفة متى ينبغي أن تتشدد ومتى ينبغي أن تتنازل.

إن ميزة التمرد في العراق هي بالضبط إحدى مكامن الخلل الرئيسية فيه، انه تمرد يفتقد للقيادة الموحدة وبالتالي للاستراتيجية الواحدة، وهو إن كان يلتقي في الكثير من عناصره خلف هدف إضعاف الحكومة المركزية، إلا انه يختلف في تحديد السبب والغاية وأحيانا الوسيلة. وإذا كانت هناك جماعات مسلحة تعتبر تقويض الحكومة بل ومؤسسات الدولة هدفها الرئيسي، وهي التي يمكن ان نطلق عليها مجازا وصف «المتمردين المتشددين»، فإن بعض الجماعات الخارجة عن القانون لا تسعى إلى التمرد بحد ذاته، بقدر سعيها إلى حماية وتأكيد الذات، لينتهي استمرارها بالعمل خارج إطار مؤسسات الدولة الأمنية، عند إحساسها بأن هذه المؤسسات أصبحت قادرة على تحقيق أهدافها، وهي جماعات قد توصف بـ«المتمردين المعتدلين».

أيا كان، فإن تأمين المركز، وهو في هذه الحالة العاصمة بغداد، صار يشكل العنصر الأساسي لأي خطة جديدة، أولا لأن ذلك هو الوسيلة الوحيدة لتأكيد قدرة الحكومة على العمل، وبالتالي اكتساب مصداقية القيادة كعنصر سايكولوجي أساسي لاكتساب «الطاعة»، وثانيا لأن ذلك سيرسل رسالة مزدوجة إلى الفصائل المسلحة العاملة خارج نطاق الدولة، الأولى ستطمئن «المتمردين المعتدلين» من أن الدولة تسلمت زمام الأمور وستوفر لهم ما يحتاجونه من «حماية» وعناصر لتأكيد الذات لضمان تحييدهم وإخراجهم من مساحة العمل المسلح، والثانية ستتجه إلى «المتمردين المتشددين» لتضعف تعويلهم على تدمير السلطة المركزية، وتدفع تمردهم إلى المناطق الهامشية، ليغدو فعلهم المسلح اقل اعتبارا من حيث وزنه السياسي، وبالنتيجة دفعهم إما إلى الاعتدال في أهدافهم أو إلى مزيد من المواجهة العسكرية ولكن بتداعي سياسي اقل أهمية.

لقد فشلت المحاولات السابقة لتأمين بغداد والتعامل مع التمرد، لأنها لم تميز بين نوعي التمرد، وتراوحت بين السعي إلى مواجهة الجميع، وبالتالي رصفهم في صف واحد بمواجهة الدولة «الضعيفة أصلا»، أو مساومة الجميع، وبالتالي الإخلال بمصداقية الدولة كجهة ردع وحامية للقانون. إن حكومة متساهلة جدا تنتهي إلى نفس مصير حكومة متشددة بإفراط، إما لأنها مخترقة من الجميع الى حد فقدان اي قدرة على مواجهة احد، أو محاربة للجميع الى حد فقدان أي قدرة على مصالحة أحد.

الاستراتيجية الأمريكية الجديدة، كما الخطة الأمنية الجديدة للحكومة العراقية، تفترض أن بغداد هي المفتاح. أولا لأن تأمين بغداد سيحقق ما ذكرناه من دعم لسلطة مركزية قوية تتمتع بمصداقية أن تحكم وأن تساوم وأن تردع، وثانيا لأنه لا قيمة سياسية عالية لعنف يجري في الأطراف، وتتم ملاحقته بتصميم عال. لقد حقق «الإرهاب» بعض أهم أهدافه بقتل المدنيين بأعداد كبيرة في أسواق وشوارع بغداد، واهم هذه الأهداف استدراج رد فعل عنفي من الأهالي الذين افتقدوا لحكومة تشعرهم بالأمان، فتصاعد العنف إلى حد يعتبره البعض حربا أهلية. وسائل الإعلام الموجودة بكثافة في بغداد وفرت فرصة مهمة للإرهاب، ليعلن وجوده وليؤكد نجاح استراتيجيته من حيث تغطيتها المتواصلة لنشاطاته في العاصمة، ثم لما نتج عن هذه النشاطات.

إن فهم استراتيجية «التمرد المتشدد» و«الإرهاب» يمثل مدخلا لصياغة أي استراتيجية جديدة للتعاطي معه. وهنا لا بد من حرمان العنف من فرصة تأكيد نفسه يوميا كحقيقة حياتية تطغى على ما سواها، وإخراجه من الحدود الجغرافية لمركز السياسة والإعلام والاقتصاد، وبالتالي إطلاق مناخ جديد يغير من صورة البيئة التي شهدناها مع بغداد يمزقها العنف، وإطلاق قدرة الحكومة على أن تنتقل إلى نشاطات «حكومية» أخرى كدعم الاقتصاد وتوفير فرص العمل، وتحسين الخدمات، متجردة هذه المرة من عذر الانهماك الدائم في مواجهة التمرد والتخريب.

والمفارقة أن إدارة بوش وجدت نفسها لأول مرة متخندقة بشكل كامل مع الحكومة العراقية، فتغير معطيات الواقع السياسي الأمريكي الداخلي مع هيمنة الديمقراطيين على الكونغرس، لم يعد يمنح الإدارة وقتا طويلا أو موارد كبيرة للانهماك في مزيد من المحاولات «التجريبية» سعيا وراء سراب جعل الوجود الأمريكي مقبولا من الجميع وزج كل الفرقاء، بمن فيهم أولئك الذين عارضوا العملية السياسية في مصالحة أضعفت مصداقية الحكومة، لأنها فرضت عليها تساهلا مفرطا، وبالتالي لم يعد وضع الإدارة يتحمل مزيدا من الجدل البيزنطي عن البيضة والدجاجة في العراق، بل بات يفترض ويفرض ضرورة الانتصار الجدي للعملية السياسية كحاضنة لمعظم الفرقاء وغلق الباب أمام من ظلوا يرفضون دخولها، وهي مفتوحة طوال الزمن الذي انقضى من عمر النزف العراقي والأمريكي. والمهلة التي منحها بوش في خطابه للحكومة العراقية، هي أيضا مهلة ضمنية لفريقه العامل في الشأن العراقي، والرسالة واضحة: أن الوقت يضيق على الجميع.

أما الحكومة العراقية، فتجد بضيق الفضاء الأمريكي أمام مزيد من التردد حول العراق، فرصة أخيرة لأداء أكثر منهجية وحزما ووضوحا في الأهداف، وتدرك أن لا خيار آخر قبل الإعلان عن «الفشل» سوى الدخول في مواجهة قد تكون الأعلى كلفة والأكثر مجازفة، إلا أنها السبيل الوحيد لاكتساب المصداقية، التي ينبغي أن تتمتع بها حكومة تحكم وتطاع. سيحاول رجال التمرد المتشدد والإرهابيون استباق أي استراتيجية جديدة أو خطة أمنية بديلة بنشاطات توحي بفشل خيارات الحكومة، وسينقلون نشاطاتهم إلى مدن أخرى لفتح جبهات استنزاف جديدة، لكن الأمر سيكون في النهاية رهنا بقدرة كل طرف، الأمريكي والعراقي والتمرد، على المطاولة وسط ما يتعرض له من ضغوط، أولها ضغط استحالة استمرار المعادلة الراهنة.