من فلسطين إلى العراق: تجاهل البت في القضايا الجوهرية

TT

حالة من الفوضى السياسية تضرب المنطقة العربية في قلب مشكلاتها الأساسية: فلسطين والعراق والدور الايراني. وحالة من التلهي تمارسها الدولة العظمى أميركا عبر مسؤوليها الذين يتوافدون إلى المنطقة واحدا وراء الآخر، ذلك أنهم بارعون في طرح التفاصيل التي تبتعد عن جوهر الموضوع في كل مسألة تخضع للنقاش. وحالة من العبث السياسي تتشبث بها إسرائيل حين تتحدث عن انفساح المجال أمام قيام تحالف بينها وبين «الدول العربية المعتدلة» ضد «الدول العربية المتطرفة». ويتجمع حول هذه الحالات الثلاث من الفوضى والتلهي والعبث، سيل من اللقاءات والمباحثات والتحليلات التي تقول أشياء كثيرة ولكنها لا تقول شيئا واحدا مفيدا. إنها مرحلة من انعدام السياسة وغيابها في مرحلة تحتاج أكثر ما تحتاج إلى السياسة وحضورها.

لنبدأ بفلسطين، حيث الجدل محتدم وطويل ومكثف حول تشكيل حكومة الوحدة الوطنية. وتتم مناقشة هذا الموضوع الحيوي من خلال ألاعيب تشبه ألاعيب الحواة. اللعبة الأولى اسمها البرنامج السياسي لحكومة الوحدة الوطنية. الكل يكذب ويقول إن أساس البرنامج السياسي هو وثيقة الأسرى كما اتفق عليها بعد تعديلاتها، ولكن الأمر يتطور إلى حديث عن «كتاب التكليف» الذي سيوجهه رئيس السلطة إلى رئيس الحكومة ليتم التشكيل على أساسه، ونجد أن كتاب التكليف سيتضمن نقاطا أساسية تتناقض مع وثيقة الأسرى أو تكبلها بنقاط مطلوبة. وحين يتم رفض ذلك يخرج الحاوي من جيبه ورقة أخرى يقترح فيها أن يتضمن كتاب التكليف بندين، بندا نظريا يسرد الأسس المتفق عليها دوليا، وبندا سياسيا مباشرا حول مهمات الحكومة. البند النظري تتعامل معه الرئاسة الفلسطينية ومنظمة التحرير، والبند السياسي المباشر تتعامل معه الحكومة، وعلى أساس أن البند النظري لا يلزمها، ولكنه موجود ويتم التصويت عليه. وحين يتم رفض ذلك يخرج الحاوي من جيبه ورقة ثالثة تحمل اسم توزيع الوزارات السيادية، واحدة لفتح (الإعلام)، وواحدة لشخصية مرضي عنها أميركيا (المالية)، وواحدة لمستقل (الداخلية). وهكذا تصبح حركة حماس خارج الموضوع، وتصبح مهمة وزارة الوحدة الوطنية طرد حركة حماس منها، فهي موجودة، ولكنها لا تملك أية صلاحية فاعلة، ودورها هو تصريف أعمال الصحة ودوام المدرسين والطلاب. ويتم إبعاد حركة حماس عن وزارة الداخلية، بينما تتواجد في الشارع قوى مسلحة كثيفة ومتواجهة، وما أن تتخلى حركة حماس عن وزارة الداخلية وقواها حتى يتم الانقضاض عليها وتهميشها. وحين يتم رفض ذلك يخرج الحاوي من جيبه ورقة رابعة، فيتم إرسال وفد من شخصين إلى دمشق لترتيب اجتماع بين الرئيس محمود عباس وبين خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس. أحد الشخصين اللذين تم إرسالهما هو محمد رشيد (أو خالد سلام)، والمعروف بصداقته الوثيقة مع محمد دحلان الذي تنتقده حركة حماس وتهاجمه بالإسم وتتهمه بقضايا كثيرة. وما أن تعرف حركة حماس أن محمد رشيد (أو خالد سلام) هو عضو في هذا الوفد حتى تستنتج أن محاولة الحوار هذه ليست جدية، وأن كلاما دقيقا وحساسا تود حركة حماس التعبير عنه، لا يمكن أن تقوله أمام هذا الوفد.

إذا نسينا كل هذه التفاصيل، فثمة حقيقة واحدة مؤداها أن وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس وصلت إلى رام الله، وأعلنت عن رغبتها بعدم بقاء حركة حماس في السلطة، وبعدم إدخال سوريا في حوارات الموضوع الفلسطيني. ويبدأ فجأة الحديث عن إلغاء زيارة الرئيس الفلسطيني إلى دمشق، أو إنجاز الزيارة من دون الالتقاء مع مشعل، بينما اللقاء مع مشعل هو هدف الزيارة الرئيسي، تفاؤلا بوساطة سورية. وعلى ضوء هذه الحقيقة من حقنا أن نتساءل: لماذا إذا ينشغل الفلسطينيون بتداول كل هذه التفاصيل؟ هل هي الفوضى، أم هو التلهي، أم هو العبث؟

إن الفلسطينيين يختلفون حول «المشروع الوطني الفلسطيني»، طرف يقول إن المشروع الوطني الفلسطيني كما مثلته حركة فتح عبر اتفاق اوسلو، قد فشل. وهو يتقلص الآن نحو مشروع قيام دولة فلسطينية بحدود مؤقتة يرفضها الفلسطينيون، ومطالبة بالتوجه نحو الحل الشامل يرفضها الإسرائيليون والأميركيون. ويقف في المقابل طرف آخر يقول إن المشروع الوطني الفلسطيني كما تمثله حركة حماس مرفوض دوليا ومستحيل التحقيق. وبدلا من أن ينشغل الفلسطينيون بفتح حوار واسع ومعمق حول هذا الموضوع الأساسي، والذي يشكل وحده مفتاح الحل لكل القضايا الأخرى، يقفزون من فوقه وينشغلون بنقاش قضايا تفصيلية.

ويتكرر الأمر نفسه عند بحث موضوع العراق وخطة الرئيس بوش الجديدة بشأنه. الأميركيون منشغلون بتنظيم حشد عربي ضد احتمال امتلاك ايران لسلاح نووي لا يزال في رحم الغيب. والعرب منشغلون بتغيير الدستور العراقي وإنهاء وجود المليشيات الطائفية التي تمارس القتل والتهجير. الشكوى من المليشيات الطائفية أنها مليشيات شيعية مدعومة من الحكومة العراقية، وأنها كفيلة بإحداث انقسامات دينية عميقة في العراق وفي الدول العربية المجاورة له. والشكوى من المليشيات الطائفية أنها مليشيات موالية لايران، وهي أداة ايران في مد نفوذها إلى العراق ودول الخليج. وإذا كانت هذه الأمور واضحة، فإن الخطة الأميركية تجاه هذا الوضوح تكاد تكون خطة سوريالية. فأميركا هي التي قررت أن تتعاون مع هذه المليشيات وتعتبرها أداتها الداخلية في السيطرة على الوضع العراقي. ثم قامت أميركا بتسليم السلطة لقادة هذه المليشيات، سواء في البرلمان أو في الحكومة أو في الجيش والأجهزة الأمنية. والآن.. تأتي أميركا إلى هؤلاء القادة وتطلب منهم ضرب المليشيات. تطلب منهم ضرب أنفسهم. من أجل فرض الأمن، ومن أجل التخلص من النفوذ الايراني. هل يعقل ذلك؟ حكومة نوري المالكي مثلا وصلت إلى السلطة عبر تأييد نواب مقتدى الصدر (30 نائبا)، ولولا ذلك لكانت رئاسة الحكومة قد ذهبت إلى إياد علاوي، فهل يستطيع نوري المالكي أن يخوض معركة للقضاء على مليشيا مقتدى الصدر؟ أما الدستور الذي أقر الفيدرالية، وفسر قيام الفيدرالية على أساس طائفي، فقد تم وضعه على أيدي قادة المليشيات، وشكل المدخل لقوتهم ونفوذهم، والمطلوب الآن من هؤلاء القادة أن يتولوا بأنفسهم تغيير الدستور وإلغاء مصدر قوتهم ونفوذهم، فهل هم مؤهلون لهذا الدور؟ ثم لنفرض أنه تم القضاء على المليشيات الطائفية، وتم تعديل الدستور على أساس قاعدة المواطنية، فهل سيستوي الأمر من دون البحث بالاحتلال الأميركي ومصيره؟

إن الحل في العراق يقتضي أمرين: أولهما تعديل الدستور، أو إلغاؤه، ووضع دستور جديد موحد للبلد كله. والأمر الثاني هو إنهاء الاحتلال الأميركي حسب خطة منطقية وعملية، أساسها وضع العراق تحت إشراف الأمم المتحدة، ولفترة زمنية تتيح بناء جيش عراقي وطني موحد، وأجهزة وطنية موحدة، مع جدول زمني تدريجي لانسحاب القوات الأميركية. وما لم يتم ذلك، فإن كل الخطط الأمنية لن تسفر إلا عن خطط أمنية جديدة، تقوم على ركام من الضحايا الجدد. ويطرح الأميركيون التضحية بالدستور، ولكنهم يتجاهلون موضوع الاحتلال وأعوانه. وستبقى الأمور تدور في إطار من الفوضى والتلهي والعبث، إلى أن يتم وضع صيغة تبحث الأمرين معا: الدستور والاحتلال.

والأمر هنا جدير بلقاء عربي. لقاء قادة حكماء. يبحثون الأمور بعمق، وبشمولية، ويطرحون على أساس ذلك خطة للإنقاذ، خطة سياسية تملأ الساحة. خطة سياسية تجذب المؤيدين من كل الأطياف، ومن أجل عراق عربي وموحد، يصد كل أنواع التدخلات الخارجية، ويتطلع إلى تناسق بين قوى المنطقة الثلاث: العرب وتركيا وايران.