العودة إلى.. «الاعتدال العربي»

TT

هل يكون الحديث الأمريكي أخيرا عن قوى الاعتدال في المنطقة بديلا مؤقتا عن خطابات التبشير بفكرة الشرق الأوسط الجديد، ومحاولة أخرى للبحث عن صيغ جديدة أقل تطرفا في التعاطي مع أزمات المنطقة. فبعد خسائرها الكبرى في العراق وفشل محاولة التغيير بنزعة ثورية وفوضى خلاقة، جاءت العودة الأمريكية المتأخرة إلى قوى الاعتدال العربي للتشاور حول دبلوماسية مختلفة في كيفية إدارة أزمات المنطقة وإصلاح ما أفسدته سياسة المحافظين الجدد.

تعقيدات البيئة السياسية العربية وتوازنات القوى في المنطقة تجعل مهمة دول الاعتدال بالغة الصعوبة، في مواجهة مشكلات متداخلة لتحقيق منجز لصالح الاستقرار في المنطقة. فالمسألة النووية الإيرانية اتجهت إلى تصعيد يقترب من دائرة الخطر مع ظهور بوادر أمريكية في توجيه ضربة عسكرية، ومأزق عراقي مفتوح على كل الاحتمالات، مقابل توتر لبناني مستمر ينتظر معجزة سياسية، ووضعا فلسطينيا يزداد تعقيدا مع مرور الوقت.

لا يزال العرب المعتدلون يشعرون بخيبة أمل كبيرة في دور الوسيط الأمريكي الذي تخلى عن دوره كراعٍ أمينٍ لعملية السلام وانحيازه المكشوف لإسرائيل، مما يضعف حالة التفاؤل بهذا التحول المنتظر الذي قد لا يكون جديا في اتجاه إحياء مفاوضات شاملة في مدى زمني مقبول. وأنه مجرد خطوة شكلية لتحقيق مكسب إعلامي مؤقت. مشكلة هذه التطور أنه لم يأت من منطلق اهتمام حقيقي في مسار السلام وإنما جاء في سياق حاجة أمريكية طارئة لمواجهة إيران. من المهم أن تتطور الأفكار الجديدة للإدارة الأمريكية حول النزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي إلى خطة عملية بعد تجميد دام ست سنوات بعد أن عطلت سياسة شارون الجدول الزمني المحدد للمراحل الثلاث لخارطة الطريق تحت رعاية اللجنة الرباعية الدولية. ومع الاعتراف بوجود تطرف عربي أعاق تقدم العملية السلمية في بعض مراحلها إلا أنه ليس من المقبول في هذه المرحلة اختزال القضية الفلسطينية بمشكلات جانبية في أداء حكومة حماس، أو عمل المقاومة المستمرة بسبب التعنت الإسرائيلي الذي ثبت أكثر من مرة عدم جديتها في إجراء مفاوضات لوضع برامج زمنية، لقطع الطريق على أي مبادرة عربية أو أمريكية وتهربا من استحقاقات السلام. إن إخفاق عملية السلام ووصولها إلى طريق مسدود أثرا في مصداقية جهود الاعتدال العربي، وعززا صوت التطرف لمصلحة دول وأحزاب عربية. لقد كان مصطلح الاعتدال أكثر قبولا في عقد التسعينات الماضية والتحقت بمعسكره الأغلبية العربية لكن تدهور الأوضاع في الأراضي المحتلة، وفشل مسار عملية السلام أديا إلى جاذبية التطرف وانتشاره. لذا، فقد خطاب الاعتدال العربي شعبيته، أمام خطاب آخر اختزل النضال ضد الاحتلال في نمط محدد من المقاومة، فظل هو الأقدر على بث الحماس الشعبي وإثارة الجماهير.

متغيرات عالمية، وتحولات في موازين القوى شحنت مصطلح الاعتدال بمعان ومعايير جديدة تختلف عن محددات زمن الحرب الباردة، فبدت بعض الأنظمة الثورية أقل تطرفا في هذه المرحلة ولديها رغبة كامنة في اللحاق بالاعتدال وتغيير خطابها الإعلامي، فمع عجزها على التكيف مع التطورات الدولية، وجمودها السياسي، ودورها في تعطيل جهود دبلوماسية لتحقيق الاستقرار، إلا أنها بدت أكثر اعتدالا في سياستها الخارجية مقابل سياسة إسرائيلية وأمريكية ذات نزعة متطرفة، مما يجعل قوى الاعتدال في المنطقة أمام مهمات صعبة للإقناع بمنهجها السياسي، فالاعتدال عند طرف ليس له معنى دون وجود اعتدال عند الطرف الآخر.

تأتي بعض محاولات تشويه الاعتدال في كتابات وحوارات فضائية عربية، وفق مقدمات تقليدية، وكثيرا ما ينجح هذا الخطاب في تشويه الجهود السياسية التي يقدمها الاعتدال العربي حتى في معالجة الكوارث التي ولدت من حماقات قوى التطرف في المنطقة. الكثير مما يقدمه هذا الخطاب لا يخضع لمعايير الصواب والخطأ مباشرة، أو إضافة معلومة جديدة، وإنما هي استنتاجات نمطية، فيكون الاختلاف ليس حول صحة هذه المعلومة أو تلك، بقدر ما أن الأزمة في طريقة التفكير والتعامل مع الحقائق في رؤية السياسة. فيرى أحدهم «بأن ارتباط بعض الأنظمة العربية المعتدلة بأمريكا يعني ارتباطها غير المباشر بإسرائيل، والتنسيق العربي ـ الأمريكي المطلق، يتطلب تنسيقا عربيا مع إسرائيل «حشر إسرائيل بهذه الطريقة مشكلته أنه صحيح والواقع لن يكون إلا بهذه الطريقة، ولا فائدة من هذا الاستنتاج إلا في كونه ينتج وعيا عبثيا للتشويه الفارغ من أي مضمون».

هناك نقد آخر يبدو أكثر وجاهة حيث يعترض البعض على فكرة التقسيم بين طرف عربي معتدل وآخر لا يملك هذه الصفة، من مبدأ أنها تولد استقطابات حادة بين معسكر متشدد وآخر معتدل، وستؤدي إلى تجزئة عربية، وأنها مجرد شعارات جديدة تسوقها الإدارة الأمريكية، وفق معاييرها الخاصة.

خضوع مفهوم الاعتدال للمعايير الأمريكية كاف لجعله مفهوما رديئا متلبسا بالخيانة والتعاون مع العدو في نظر الجماهير. هذا الرأي يفسر أسباب عدم جاذبية الاعتدال في المنظور الشعبي أكثر منه نقدا لأهمية الاعتدال كضرورة واقعية لا تؤثر على قيمته نظرة السياسة الأمريكية ومعاييرها في التعامل مع الآخرين. وقد شهدنا الأثر السلبي لبعض حالات التهميش لقوى الاعتدال في إدارة أزمات المنطقة من قبل الولايات المتحدة، وعدم الأخذ بنصائحها، فعاشت المنطقة العربية بعضا من ملامح الفوضى الخلاقة على الطريقة الأمريكية نتيجة عدم سماعها لنصائح القوى المعتدلة في المنطقة.

الاعتدال السياسي ضرورة إقليمية وعربية وليس أمريكية، ومع أن المتوقع أن الاعتدال العربي لن يكون مثاليا وسيدور حول أفق محدود إلا أن الأحداث والأزمات تؤكد أكثر من مرة بأن خيارات الاعتدال هي الأقل كارثية مقابل خيارات الأنظمة الثورية.

جوهر الاعتدال يقوم على إحياء الحوار بين دول المنطقة وتجنب المواجهات والتصعيد العسكري، والرفض للتشدد السياسي الذي يعني تمسك كل طرف بمواقفه بالحد الأقصى دون أي تنازلات ومراعاة لموازين القوى ومعطيات الواقع ومتغيرات. الاعتدال يعني مقاومة الشعارات الفارغة من أي مضمون لمساعدة الشعوب على تحرير نفسها بالانشغال بالتنمية وتعزيز قدرتها على الكفاح الحضاري.