أنا مهموم.. إذن أنا موجود !

TT

عشرات الألوف من المواطنين يعملون أشق وأقسى مهنة في العالم: التدريس. وقد جربت عندما كنت أحاضر في الفلسفة وفي تاريخ الحضارة بكلية الآداب. لا أقول إنني كنت أشكو من هذه المهنة.. فقد كانت المحاضرات قليلة.. ولم يكن عدد الطلبة كثيرا، وكنت هاويا أعلم أنني سوف أترك هذه المهنة بعد قليل.. فلم تكن مهنتي الوحيدة.

بل إنني كنت أوزع ساعاتي بين الدراسة والصحافة. كنت أضع قدما هنا وقدما هناك وعينا هنا والأخرى هناك.

لكني كنت أضع المهنتين في قلبي ـ وجع قلب؟! وعندما تركت التدريس في الجامعة كنت أحس أنني أترك العمل في كلية لأتفرغ للتدريس في جامعة الصحافة أي التي تضم مئات من الألوف من القراء.

وكل مدرس في مدرسته وفي كليته مهان.. وهوانُ المدرسين هو الإرهاق المستمر، والتعب الذي لا ينتهي بالخروج من المدرسة أو من الكلية.. فالمدرس يستأنف عمله في البيت في القراءة والتصحيح وعليه بعد ذلك أن يكون زوجا وأبا أو ابنا بارا بوالديه. أو يكون مواطنا عاديا من حقه أن يأكل ويشرب ويلبس، ويستريح من التعب ليصبح قادرا على استئناف العمل. وكما يحمل المدرس كراريس الطلبة إلى البيت يحمل هموم البيت إلى المدرسة، ويظل طول عمره يحمل هموما من هنا ومن هناك.. ويظل طيلة عمره يمتص الحبر والطباشير.. ويمتصه الحبر والطباشير وأمام الطلبة الصغار لا يدرون أي عذاب يعانيه، وأي مصير ينتظره، أي عمل جليل يقوم به من أجل مستقبل هذه الأجيال!

ولا يوجد مدرس لا يتمنى أن يكون ظريفا لطيفا محبوبا يضحك طيلة النهار. ولكنه لا يستطيع. لا يستطيع أن يضحك وهو يشرح نظرية علمية. لا يستطيع أن ينكت على قوانين الأجسام الطافية. ولا على حساب المثلثات.. لا يستطيع أي مدرس أن يسكت على الإهمال والكذب والغش. لا يستطيع مدرس أن ينسى أنه أب وأنه مشرع.. وانه حامي الفضيلة والنظام.. ولا يستطيع أن يمنع نفسه من الثورة ضد الاستخفاف به وبقداسة العلم وبخطورة رسالته.. ولذلك كان المدرس قاسيا، وكانت القسوة مكروهة من الطالب الذي يرى في المدرس صورة أبيه ويرى في أبيه صدى للمدرس.. ويرى المدرسة امتدادا للبيت ويرى البيت انكماشا للمدرسة.

ولا يستطيع المدرس أن يحقق كل شيء، وإن كان يتمنى. ونحن من ورائه نتمنى.. ولذلك يجب أن يعاونه الأب والصحف والإذاعة والتليفزيون في تربية الجيل الجديد.. وأن يشاركوا المدرس في التوجيه والتخويف والضبط والربط. لقد ارتضى المدرس ـ مئات الألوف ـ أن يقوم بدور الإنسان المخيف الكريه. وهي تضحية كبرى من أجل العلم والأخلاق والوطن!