زيارة عباس لدمشق: حركة بلا بركة.. والرابح الحلف الإيراني!

TT

أهم نتيجة لزيارة الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) الأخيرة الى دمشق، أنها أعادت لسوريا، وإن مؤقتاً، دوراً كانت فقدته، أو هو تراجع على الأقل وأنها أظهرتها، ولو من قبيل الوهم، وكأنها تمسك بأوراق المنطقة الأساسية كلها، أي الورقة العراقية التي أصبحت أوراقاً ممزقة ومُنتَّفةً، والورقة اللبنانية والورقة الفلسطينية التي غدت أضعف الأوراق وللأسف.

كانت سوريا بحاجة وبأمس الحاجة الى هذه الزيارة فالمفاوضات التي تجري بينها وبين إسرائيل، من تحت الطاولة منذ سنتين، غدت بحاجة الى دفعة جديدة وبعض الدعوات الأميركية من خلال ورقة بيكر ـ هاملتون، ومن خارجها والمستمرة بالمناداة بضرورة الانفتاح على دمشق، باتت بحاجة إلى استعراض سياسي يعطيها المصداقية ويوفر لها دفعة دعم معنوي ليصبح بالإمكان تمريرها على المترددين الأميركيين.

ويعرف محمود عباس (أبو مازن) هذا ويعرف أيضاً أن العلاقات بين سوريا وإيران تشبه الزواج الكاثوليكي المحصن ضد الطلاق، كما أنه كان يعرف أن ذهابه الى دمشق في هذا الوقت بالذات سيضعف أوراقه تجاه داعميه العرب والأميركيين.. فلماذا إذاً ذهب الى العاصمة السورية يا ترى..؟!

لقد أصبح واضحاً ومعروفاً وثابتاً أن (أبو مازن) بات يشعر أنه أغرق نفسه في ورطة لا يعرف كيف بإمكانه الخروج منها، فهو حاور «حماس»، على مدى نحو عام، حتى أعياه الحوار لكنه لم يخرج بأي شيء ولم يزحزحها عن مواقفها الثابتة ولو بمقدار قيد أنملة وهو بعد أن عجم عيدانه أشهر سيف الاستفتاء العام والانتخابات المبكرة لكنه أحس بخطورة هذه الخطوة التي قد يؤدي الإقدام عليها الى الحرب الأهلية المرعبة ولهذا فقد نظر الى زيارة دمشق كنظرة الغريق الذي باتت تبتلعه الأمواج وبات هو يبحث ولو عن قشة صغيرة يتعلق بها.

قبل أن يذهب الرئيس الفلسطيني الى دمشق نصحه كثيرون ألاَّ يذهب، ومن بين هؤلاء وزيرة الخارجية الأميركية كونداليزا رايس خلال رحلتها الأخيرة الى رام الله، ومن بين هؤلاء أيضاً بعض كبار مستشاريه المقربين، ثم وفوق هذا وذاك فإن «أبو مازن» كان يعرف أن القاهرة غير مرتاحة لما قرر الإقدام عليه، وأن عرباً آخرين لا يريدونه لكنه مع ذلك أصر على هذه الزيارة التي كان من الممكن ان تأخذه الى لبنان المنقسم على نفسه والذي ليس في مصلحة الفلسطينيين إقحام أنفسهم في أزمته لولا أنه تراجع في اللحظة الأخيرة.

إن المعروف عن (أبو مازن) أنه يعرف دهاليز السياسة السورية أكثر من كل القادة الفلسطينيين الآخرين، وأنه كان أول من استجاب لدعوة ياسر عرفات (أبو عمار) الذي دعا بعد إخراج قوات ومراكز منظمة التحرير من بيروت بعد الاجتياح العسكري الإسرائيلي للبنان في يونيو (حزيران) عام 1982، إلى ضرورة الفرار من دمشق والهروب بالقرار الوطني الفلسطيني الى تونس إستعداداً لمفاوضات السلام القادمة التي أنتجت لاحقاً اتفاقيات أوسلو وما ترتب على هذه الاتفاقيات.

لكن ومع ذلك فإن الرئيس الفلسطيني وقع في مصيدة سماسرة المواقف السياسية الذين سبقوه الى العاصمة السورية والذين صوروا له الأوضاع على غير حقيقتها وأقنعوه بأن كل شيء أصبح جاهزاً وأن خالد مشعل تحت الضغط السوري سيعطيه ما لم يعطه إياه إسماعيل هنية وأن كل الطرق غدت سالكة وآمنة، إن لجهة حكومة الوحدة الوطنية المنشودة أو لجهة المواقف السياسية التي من المفترض أن تتقدم بها هذه الحكومة للجنة الرباعية وللمجتمع الدولي، الذي غدا جاداً في مسألة ضرورة إقامة دولة فلسطينية مستقلة الى جانب الدولة الإسرائيلية.

والمستغرب فعلاً أن (أبو مازن) الذي يعرف تمام المعرفة حقيقة العلاقة بين دمشق وطهران وبين طهران وقيادة «حماس» والذي يعرف أيضاً أن القرار بالنسبة لقضية الشرق الأوسط، التي هي على كل هذا المستوى من الخطورة، غدا قرار «الولي الفقيه» في العاصمة الإيرانية، وليس قرار القيادة السورية ولا خالد مشعل ولا إسماعيل هنية.

إن المفترض أن الرئيس الفلسطيني يعرف هذا، وهو بالتأكيد يعرفه، فالتحالف الإيراني الذي يضم سوريا و«حماس» و«حزب الله» والميليشيات العراقية، المتمذهبة التابعة لفيلق القدس بقيادة قاسم سليماني التابع للحرس الثوري الإيراني، قد بدأ هجوماً معاكساً رداً على استراتيجية بوش الجديدة، ولذلك فإنه، أي هذا التحالف، لا يمكن أن يسمح بأي مرونة على الجبهة الفلسطينية بينما التصعيد وصل ذروته على جبهة العراق الشرقية وعلى جبهة لبنان الغربية وعلى كل الجبهات.

لكن، ومع ذلك فقد أقدم رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية على هذه الخطوة، غير الموفقة، وأدخل نفسه وقضيته في المساحة الرمادية مرة أخرى، إذ أن ما عاد به من زيارته «التاريخية» هذه الى دمشق قد وضع أسلحة جديدة بيد «حماس» وقيادتها وكذلك فإن ما جرى خلال هذه الزيارة أساء لصورته كرئيس للشعب الفلسطيني وكقائد تاريخي ما كان يجب أن ينزل الى مستوى النّدية وأقل لا مع خالد مشعل ولا مع غيره وأيضاً فإنه أي هذا الذي جرى أبعد عنه أكثر زملائه المخلصين إخلاصاً له.

ما كان الوضع بحاجة الى قارئة كفٍّ، كالقارئة التي قرأت كف شاعر العروبة العظيم نزار قباني، إذ بينما كان أبو مازن يقف في ذلك المؤتمر الصحافي الباهت الى جانب زعيم «حماس» الذي كان أعلن الانحياز المبكر الى «فسطاط الممانعة» بقيادة مرشد الثورة الإيرانية كانت طائرة الأمين العام لمجلس الأمن القومي الإيراني علي لاريجاني تحط في مطار دمشق وكان وزير الخارجية السوري وليد المعلم يحزم أمتعته ويوضِّب حقائبه للذهاب الى طهران وكان صوت حسن نصر الله يرتفع مزمجراً في لبنان وكان شلال دماء العراقيين يزداد ارتفاعا على أيدي الميليشيات المتمذهبة التابعة لفيلق القدس بقيادة قاسم سليماني.

لم يتغير شيء فقد كان وزير الخارجية الإيراني منوشهر متقي قد قال، في أعقاب لقاءٍ بينه وبين خالد مشعل في مقر السفارة الإيرانية في دمشق يوم الأحد التاسع والعشرين من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي: «بأن المنطقة تتغير جذرياً وأن النصر يمطر علينا من كل صوب كما مطر الرحمة الإلهي».. وأن هذا بالتأكيد قد تكرر قوله خلال الإجتماع الذي جمع علي لاريجاني بزعيم حركة «حماس» في مقر السفارة الإيرانية في العاصمة السورية بينما كان أبو مازن لا يزال في دمشق وحائراً في ما إذا كان عليه أن يذهب الى بيروت أم يقفل عائداً بسرعة الى رام الله.

لقد حققت دمشق ما أرادته من زيارة الرئيس الفلسطيني محمود عباس الأخيرة إليها وقد حقق خالد مشعل ما أراده وربما ان الإيرانيين حققوا ما أرادوه أيضاً.. وها أن الوضع الفلسطيني يعود الى المربع الأول... أن كل ما جرى كان حركة بلا بركة وها أن المفاوضات التي لا نهاية لها بدأت في غزة من جديد وها هو الوقت يمضي بسرعة فاللجنة الرباعية ستجتمع قريباً والاجتماع الثلاثي الذي سيضم الفلسطينيين والأميركيين والإسرائيليين سيلتئم قبل ذلك... فماذا من الممكن أن يأخذ (أبو مازن) معه الى هذه الاجتماعات.. هل سيقول أن مهرجان تشكيل حكومة الوحدة الوطنية لا يزال متواصلاً وأنه لا بد من المزيد من الوقت..؟!

حتى لا يترك العالم الفلسطينيين في العراء لوحدهم ومن أجل الاستفادة من هذه الفرصة السانحة بالفعل، وبخاصة على الجانب الأميركي وبالتالي على الجانب الإسرائيلي فإنه لا بد من وضع حدٍ لسياسة التلاعب بعامل الوقت.. وإنه لا بد من إطار لهذا الحوار الذي تجدد بعد زيارة دمشق من نقطة الصفر فاللجنة الرباعية تنتظر والأميركيون ينتظرون والإسرائيليون الذين لا يريدون حلاً فعلياً والذين يظهرون بعض المرونة مجاملة لواشنطن، سعداء بالعودة الى المربع الأول واستمرار الفلسطينيين بالحوار من أجل الحوار.. وليس أكثر!!