هل انتهى النظام الإقليمي العربي؟

TT

اعتبر أحد الكتاب العرب المشهورين في إحدى الندوات الفكرية التي عقدت مؤخرا، أن ما يشهده العالم العربي حاليا هو نهاية مقولة «النظام الإقليمي العربي» التي شكلت محور الرؤية الاستراتيجية العربية منذ الأربعينيات.

فحسب هذا التصور، لم تعد لهذه المقولة نجاعة مفهومية أو إجرائية، باعتبار أن العمل العربي المشترك دخل في نفق مسدود، وجهازه المؤسسي مشلول، وقاعدته الآيديولوجية منهارة، وقدراته التعبوية ضعيفة.

ومن الجلي أن هذا الحكم النقدي المتشائم يعكس انطباعا سائدا من ضعف الأداء العربي إزاء الأزمات الإقليمية الثلاث التي تعصف بالساحة العربية: الفتنة الأهلية في العراق، وانهيار عملية التسوية في فلسطين، والصراع الداخلي في لبنان.

والمفارقة القائمة هنا هي أن العلاقات العربية ـ العربية تشهد ربما لأول مرة في تاريخها المعاصر حالة استقرار وتوازن بعد استكمال امتصاص الصدمات العنيفة التي خلفها احتلال الكويت عام 1991 وما تلاه من أحداث جسام متعاقبة حتى سقوط بغداد في 2003.

صحيح ان بعض السحب الداكنة لا تزال في الأفق، لكن مما لا شك فيه ان وضعية الاستقطاب الحاد التي عرفتها العلاقات العربية ـ العربية في الستينات والسبعينات (الصراع بين الأنظمة المحافظة والأنظمة الثورية) التي تشكل في بعض جوانبها أثرا للصراع الآيدلوجي ـ الاستراتيجي الدولي قد انتهت، كما أن التناقضات الجذرية التي ولدتها المسألة العراقية ـ الكويتية تم احتواؤها، ورغم ذلك لم يستعد النظام العربي عافيته، حتى بعد مأسسة القمة العربية، وإقرار انعقادها سنويا.

بل يمكن القول إن الدوائر التشاورية البديلة التي استحدثت في السبعينات لضمان الحد الأدنى من التنسيق العربي المشترك انحسر زخمها وفقدت تدريجيا نجاعتها العملية، وفي مقدمتها «مجموعة إعلان دمشق» والمحور الثلاثي السعودي ـ المصري ـ السوري.

ولهذه الوضعية أسباب عديدة أهمها بدون شك الآثار الجديدة التي خلفتها المعادلة الطائفية في العراق على التوازنات الإقليمية في دلالاتها الواسعة. ومن ابرز هذه الآثار دخول إيران لاعبا محوريا في المنظومة الأمنية والاستراتيجية الخليجية والعربية من موقعها الفاعل في الساحة العراقية، في الوقت الذي يوشك فيه الملف النووي الإيراني على تعريض المنظمة لهزة عنيفة جديدة. وللمعادلة نفسها آثار جلية في المعترك اللبناني، حيث نذر الصراع الطائفي تلتبس بمعطيات الوضع الإقليمي.

ومن هذه الأسباب أيضا عجز واضح عن ترجمة الرؤية العربية الموحدة لتسوية الصراع العربي ـ الإسرائيلي في مواقـف منسجمة عينية، خصوصــا بعد انفجار الصراع الداخلي في منطقة الحكم الذاتي الفلسطيني.

ومع ان أمين عام جامعة الدول العـربيـة عـمـرو موسى سعى منذ توليـه مسؤولـيته تنـشيـط الأداء الدبلـومـاسي للجامعة، إلا أن جهوده لم تتجاوز حدود براعته الشخصية وإشعاعه الكاريزمائي الذي جلب له عداوات كثيرة داخل الحكومات العربية التي تريد موظفا طيعا لا صانع قرار. فالبيت العربي ـ الذي أراده عمرو موسى ـ على غرار المفوضية الأوربية لم يطور آلياته العملية، على الرغم من المدونة المرجعية المكتملة للعمل العربي المشترك (اتفاقيات ومعاهدات في شتى المجالات). وليس من همنا الدخول في الحوار المتشعب الشائك حول أسباب إخفاق النظام الإقليمي العربي، وإنما حسبنا الإشارة إلى عاملين أساسيين يكتسيان أهميتهما من طبيعة المرحلة الراهنة.

يتعلق أولهما بعلاقة الترابط العضوي بين مقتضيات الأمن الإقليمي العربي وامتداداته في دائرة الجوار الإسلامية (تركيا وإيران)، بحيث لا يمكن بناء منظومة إقليمية عربية فاعلة من دون توسيعها الى هذا الفضاء الأوسع. وتعني هذه الملاحظة أن معطيات التكامل القومي المعروفة لا تنسجم ضرورة مع متطلبات الأمن الإقليمي التي تقتضي إدماج القوتين الإسلاميتين الرئيسيتين في قلب المنظومة الإقليمية العربية.

أما العامل الثاني فيتعلق بالفتنة الأهلية (الطائفية) التي تحولت إلى عنصر التأزيم المحوري في المنطقة، في الوقت الذي يجري توظيف المعطى الطائفي في لعبة التحالفات الإقليمية.

إن هذه التحديات المختلفة تفرض إعادة تصور مفهوم الشراكة الإقليمية التي لا تزال تحكمها الرؤى الاندماجية المتآكلة.

وبالرجوع للأدبيات الاستراتيجية العالمية يتبين أن المفهوم الجديد للشراكة يتمحور حول مفهوم «السيادة المتقاسمة» الذي لا يختزل ضرورة في المعطى السياسي الذي هو آخر حصن من حصون السيادة الوطنية.

فالفكر القومي العربي (على الرغم من المحاولات الرصينة تم اغلبها برعاية مركز دراسات الوحدة العربية ـ بيروت) لا يزال بحاجة الى تطوير رؤيته الاندماجية التي مرت من غنائية الآيديولوجيا القومية إلى منطق التكتل الوطني المصلحي، من دون المراجعة الفكرية المعمقة لمفهوم السيادة نفسه، الذي هو بؤرة الفكر السياسي الحديث.

ولن تتم هذه المراجعة من دون التوسع في مفهوم السيادة ذاته ودوائر تشكله الاستراتيجية.