عنصريون ولو نكروا.. واستنكروا

TT

صوّت المشاهدون بكثافة، لإخراج البريطانية جايد غودي من البرنامج التلفزيوني «بيج براذر» الذي يعرض على القناة الإنجليزية الرابعة، لصالح بقاء نجمة بوليوود الهندية شيلبا شيتي، بعد أن استشعروا نزعات عنصرية وعبارات غير لائقة توجه للحسناء الهندية التي، على ما يبدو، لم تنتبه كثيرا للتمييز الحاصل ضدها. إلا ان المتفرجين التقطوا العبارات المسيئة، وسمعة بريطانيا باتت في الواجهة كما كتبت صحيفة «ذي صن» داعية لإنقاذ ماء الوجه «الوطني». وسواء دخلت مبالغات على خط هذا التمييز العنصري المتلفز الذي وصلت اصداؤه الى مجلس العموم البريطاني، وحرك السياسيين كما الجماهير الغفيرة في انجلترا والهند على حد سواء، إلا ان العنصرية وإن كانت متفشية في كل بلد، فهي صنو البدائية وضد التحضر، وإن صدرت عن شقر وبيض بلون الثلج، لهم من المخترعات والاكتشافات ما يبهر العالم الثالث.

ويخطئ العرب كثيرا حين لا يتحدثون عن مقتهم للعنصرية إلا حين يتعرضون لبراثنها في الغرب، ويرون فيها مجرد تنويعات سلوكية حين تجتاح بلادهم وتقسم البيت والحي والمدينة حتى تجعل من الوطن الواحد فتاتا. ومؤلم أن يقرأ واحدنا غيرة الإنجليزي على سمعة بلاده من تهمة العنصرية، في ما لا يجد العربي عارا في ان يتعالى على نصف سكان الأرض، ومواطنيه وربما جيرانه. وثمة أغنيات عنصرية وأناشيد تشجع التمييز، وأمثال طبقية لا تحصى، أما السلوك فحدّث ولا حرج. ونحن لن نتحدث هنا عن السريلانكيين والفلبينيين الذين يشاهدون في بلادنا ما تحمر له الوجوه خجلاً، ولكن، وكما هو معروف، فإن كل إحساس بالأفضلية على الآخر، بسبب شكل أو لون أو ميزة نفسية أو مادية، هو عنصرية. ومع ذلك لم يتورع اللبنانيون وهم يشاهدون الجيش السوري يخرج من بلدهم ومعه العمال الأشقاء، حتى طلعوا بأغنيتهم المحببة «ما بدنا كعك بلبنان إلا الكعك اللبناني، وما بدنا شعب بلبنان إلا الشعب اللبناني» ولك أن تتصور ما يحل بك، لو كنت مصريا او فلسطينيا وتجلس في أماكن التظاهرات لتسمع هذه الأسطوانة المعيبة. فالمطالبة بالنقاء الخالص، ولو كان ملحناً ومسجعاً لا يأتي بغير الكارثة. والتمييز ضد الفلسطيني ليس جديداً في لبنان فهو «أسمر» وأحياناً «أسود» وفي الأحيان يغيب اسم الفرد تماما ويكتفى بأن يكون «الفلسطيني» وكفى. الفلسطينيون انفسهم لا يعفون انفسهم من التمييز، فهناك اهل الساحل «درجة أولى» وبعدهم أهل الضفة وعارهم أنهم فلاحون، ويتبعهم أهل غزة. وفي كل بلد عربي تجد المواطنين مراتب، في تصنيفات غالباً ما تدعمها قوانين مجحفة، وسلوكيات رسمية مريبة. والمضحك المبكي ان العرب الذين يتكتلون ضد العنصرية ويقيمون هيئاتهم المدنية هم إما مقيمون في الغرب وإما في إسرائيل، حيث يذكرونك على مواقعهم وفي بياناتهم انهم عرضة لظلم الأباعد، في ما ظلم ذوي القربى يبدو سهلا ابتلاعه، ولو كان سما قاتلا. وفي المغرب يتساءل الجنوبيون بصوت خفيض، عن سر التبرؤ منهم، ومحاولة التنصل من وجودهم كمواطنين كاملي الحقوق. وقد كتب أحدهم على موقع الكتروني يقول: «تعاني شريحة كبيرة في هذا البلد من العنصرية بسبب اللون، وهي المدعوة بالصحراويين مما يسبب لها الإحساس بعقدة دونية، وطلبي منكم ونحن نتكلم عن حقوق الأطفال والمرأة والحيوان والشجر والحجر وتماثيل بوذا في أفغانستان أن تكون لكم الجرأة الكافية لمناقشة هذا الموضوع، حتى لا تظل هذه الشريحة تعيش كجالية غير مرغوب فيها، وهنا بالطبع يدخل عامل اللون بقوة. ولعلمكم اني من ضحايا هذا الوضع الشاذ، الذي نعاني منه منذ قرون، وكل جيل منا يؤدي نفس الثمن، فحرمنا من الوظائف التي تشترط بعضها الجمال والمظهر، وأبناؤنا ينعتون وهم يلعبون في المدرسة بالأسماء التي نعرفها جميعا، حتى نكاد ننسى أسماءنا، ونستجيب لا شعوريا لكلمة ضراوي وعزوى وعزي». لكن مشاركا آخر، على الموقع نفسه، يجيب الكاتب مطيبا خاطره: «صحيح ان الحواري والأزقة المغربية مليئة بهكذا قصص، لكن الأمر لا يعدو ان يكون عادات وسلوكيات، هي سيئة نعم، لكنها بريئة، ولا تنطوي على حمولة عنصرية مبيتة، كما تعتقد». هكذا إجابة تحمل المصيبة في طياتها. فالمدافعون عن اغنية الكعك اللبناني، قالوا حينها انها «فشة خلق» عابرة ولا يقصد بها غير الجيش السوري الذي احتل لبنان واذاق أهله الأمرين. لكن باقي المسلسل يؤكد ان الفكر العنصري يفرّخ ويتورّم كالداء الخبيث. وقبل السوري واللبناني، كان المسيحي والمسلم، والآن نجد السني والشيعي، والتنابذ بين الطائفتين ينذر بعاقبة وخيمة. ولا ندخل هنا في التفاصيل كي لا نصب الزيت على النار. لكن تاريخيا قال الشيعة عن السنة انهم «نواصب» لأنهم ناصبوا الإمام علي العداء فيما قابلهم السنة بمصطلح «الروافض»، والتمييز ينمو ويزدهر. وصار البيروتي اليوم يخشى على وسط عاصمته من طبقة ريفية تعتصم في عقر داره، بينما كان يريد ان يبقيها على الهامش كي لا تلوث اجواءه المعقمة.

وكما يحاول أهل الشمال في المغرب دحر الجنوبيين، يود اهل بيروت الإبقاء على فضائهم مدنيا خاليا من النكهة القروية، ولا فرق ان كان المرفوض هناك اسود وهنا شيعياً. فكما تذرع الأوروبيون، ذات يوم، بنظرية الدم الأزرق، والعرق الأسمى فقضوا على الهنود الحمر، وأحرقوا اليهود واستولوا على نصف المعمورة باسم تحضير البدائيين، قبل ان يطلعوا علينا بالخارطة الجينية التي تلغي الفروقات بين الأعراق والأمم، فبمقدور كل عنصري ان يعثر على حججه الوجيهة ليضع الآخر في الإطار الذي يخدم مزاجه.

للعنصرية سببان لا ثالث لهما: الجهل بالآخر والخوف منه. وطالما أن هذين العنصرين توفرا لبشر، فإن النزعة التمييزية تطلع من النفس الأمارة بالسوء لتطلق شياطينها. وشياطين العنصرية تعبث على الأرض اللبنانية هذه الأيام، فثمة من يقول إن الجنوبيين يعتصمون وسط بيروت لأنهم بلا منازل بعد أن هدمتها اسرائيل، وانهم سعداء بأجواء الوسط البرجوازي، هم الآتون من مناطق فقيرة. وإن كان هذا الكلام يثير الاشمئزاز بين ابناء الوطن الوحد، وقد يرى فيها البعض مذهبية لها جذورها تعود إلى أكثر من 1000 سنة، فماذا تقول حين تسمع أحدهم يتحدث عن قوات «اليونيفل» المرابطة في الجنوب، معتبراً ان أفرادها مصدر للأوبئة التي ستنتشر في لبنان عاجلا أم آجلاً. طريقة مثالية للإفصاح عن شعور مضمر لدى المتكلم بأن «الله خلقنا وكسر القالب» كما يقول مثل لبناني شائع. لكن نظلم لبنان وأهله حين يقتصر الكلام على العنصرية عندهم وبهم. فمن حول هذا الوطن الصغير بيئة موبوءة من محيطها إلى الخليج، ورغم ان ثمة كتابا اعتبروا العالم المستقبلي منشطرا إلى قسمين: «هارد وير» تمسك به الصين «وسوفت وير» بيد الهنود الذين سبقوا الجميع في صناعة البرمجيات، إلا ان العربي ما زال يحتقر الهندي، لأسباب غير مفهومة، ويرى في الجنس الأصفر على نبوغه صورة «يأجوج ومأجوج». ورغم عشق اليعربي لماركات الـ«هيتاشي» و«كانون» و«سوني» إلا انه لا يرى الوجوه والعقول التي تختبئ خلفها. ربما كنا «خير امة أخرجت للناس» ولكن ليس حتما في الانتاج، وحب العدالة والمساواة. «لون بشرتنا لا يختلف عن لون من نَضطهد» يقول لامارتين، ومن الحكمة ان يردد كل منا تلك العبارة، تفاديا لليوم الذي يصل فيه الدور إلى رقبته. ومما يقوله لك المختصون، في هذا المجال، حذار ان تكتفي بدروس في الأخلاق، كي تقضي على العنصرية، وإنما الدواء هو في اجتثاث الخوف من النفوس، والانفتاح على الآخر بالمعرفة. وما حدث في برنامج «بيج براذر» على رمزيته هو انتصار راقٍ للعقل في لحظة انفلات الغرائز من عقالها.

[email protected]