بين «هيكلين»!

TT

يبدو أن نصيب وقدر العالم العربي أن يكون أسيرا للأساطير، وأن تكون شعوب منطقته مكبلة دوما بالأوهام والخزعبلات. فها هي القدس ومسجدها الأقصى، تقع أسيرة احتلال غاشم لا يرحم، ومتطرفين مهووسين بأسطورة كاذبة تقتضي وتتطلب هدم وازالة المسجد الأقصى، لأنه بحسب زعمهم تحت المسجد يقع هيكل النبي سليمان عليه السلام، وهو أهم دليل يثبت ملك اليهود لفلسطين، ويؤكد جدارة وسمو عرقهم. ومع تكريس هذه الاكذوبة بدأت منذ عشر سنين الحفريات الهائلة تحت المسجد الأقصى لأعماق تصل لأكثر من أربعين مترا (مع بناء كنيس يهودي مؤخرا في مواجهة المسجد نفسه)، كل ذلك لتأكيد الهوية اليهودية للمكان، مع فشل تام صاحب كل تلك الحملات المتعلقة بالتنقيب، حيث لم يتمكنوا من اكتشاف أي أثر أو دليل لهيكل النبي سليمان المزعوم. هذا هو النموذج الأول لـ«هيكل» تسبب في ترويع الفلسطينيين، وأبناء هذه المنطقة بخلق أسطورة وتصديقها، وبناء السياسات والافكار التي تؤيدها وتدعمها وتنميها.

وهناك مثال آخر ابتليت به المنطقة يدل على استمرار سيطرة «الأسطورة» على عقول الناس وآرائهم. والمقصود هنا هو الرواية التاريخية لأحداث المنطقة بحسب رؤية محمد حسنين هيكل، الذي دأب على تقديم طرح متواصل مثير للجدل في مقالاته وكتبه وندواته ومقابلاته، واليوم وفي ظهوره المستمر في إحدى البرامج الفضائية يعيد صناعة الأساطير والقصص الخيالية، ويقدم قراءة «خلابة» للتاريخ. من ضمن وسائل الاقناع التي يقدمها هيكل هو تقديمه للعلاقات التي كانت تربطه بزعماء المنطقة، على أنها علاقات أكثر من خاصة، وأكثر من حميمة، وأنه كان مستشار «سوبر» له قدرات خارقة، وكان خليطا بين أرسطو وأفلاطون بفكرهم السياسي وعمر الشريف بحضوره وكاريزمته والمتنبي ببلاغته! فها هو تارة يخبر المشاهدين أنه كان يقول وينصح «جيمي» والمقصود بجيمي هو الرئيس جمال عبد الناصر، وعبد الناصر الذي كان معروفا بصرامة وقساوة استثنائية، لم يكن يقبل بأن تزال معه «الرسميات» لهذا الحد وتبسط أساليب الحوار معه، ولا حتى من قبل أقرب أفراد أسرته بحسب إفادة البعض منهم، ولم يكتف هيكل بهذا السرد مع الرئيس المصري الراحل، ولكن أضاف ايضا أنه كان دائما ما يقول «يا فيصل» أنا اقترح كذا، وأنصحك بكذا. يا فيصل؟ هذه جملة أخرى من تلك التي يصعب هضمها أو تصديقها. كان أول لقاء خاص مع الملك فيصل بحسب رواية هيكل، في فندق المنتزه بالإسكندرية في غرفة خاصة، وأكد لي الكثيرون من المقربين من العاهل السعودي الراحل، أن الملك فيصل خلال ترؤسه للوفد السعودي باجتماع قمة العرب بالقاهرة، وهي القمة الأخيرة قبل وفاة جمال عبد الناصر، كان هيكل ضمن الوفد المصري كوزير للإعلام، واستفسر الملك فيصل عن اسمه، فقيل له هذا هو محمد حسنين هيكل. وهذا الموقف كان بعد أكثر من عام من الرواية التي يسردها هيكل عن لقاء الإسكندرية! الإخفاق في تقديم الرواية الحقيقية لما حدث تاريخيا في المنطقة العربية، هو الذي يسمح لانتشار الأساطير والقصص الخيالية التي تقدم للبسطاء نموذجا مثاليا وبطوليا لمن يرويه، مهما كان بعيدا عن الحقيقة. ولكن هذا النوع من القصص ليست تاريخا، ولكنه قد يصلح لأعمال تلفزيونية، كالتي تصنف من ضمن مسلسلات الخيال التاريخي، ولا أقول الخيال العلمي!

[email protected]