العلاقة مع إيران: رحلة في حقل ألغام

TT

رغم أن الأمور تتجه الى مزيد من التصعيد في لبنان، رغم إعلان وقفة مؤقتة في محاولات المعارضة متعددة الاتجاهات إقصاء الحكومة، ورغم إصرار الرئيس بوش على الاستمرار في سياسته في العراق مع بعض «الماكياج» الذي لا يخفي تجاعيد الفشل، فإني أريد أن أتناول في هذا المقال موضوع ايران والعلاقات معها، إذ ان هناك من يحملها عن حق أو باطل مسئولية الكثير مما يجري من اضطرابات في المنطقة. واقول عن حق أو باطل لأنه بينما ليس هناك شك في ان ايران تتحمل بعض المسؤولية في بعض ما يحدث، فانها تبدو أحيانا كشماعة تعلق عليها (مع حقائق) أمور أخرى لتبرير أو تمرير بعض الأوهام أو الادعاءات. وأنا اعرف أني اذ اتناول هذا الموضوع، قد أكون أسير في حقل من الألغام بعضها حي وبعضها فقد الفاعلية، وبعضها من بقايا عصور ماضية، والبعض الآخر من الأوهام التي تزرع في العقول قبل الحقول لأغراض تتباين وتختلف. وأود بادئ ذي بدء أن أقرر اني لست من المعجبين بالنظام الإيراني من حيث انه يعتمد على حكم الملالي، وإني لست قطعا ممن يرون ان حل المشاكل هو في اقامة دولة دينية، بل أرى في ذلك خطرا كبيرا على السياسة وعلى الدين ذاته وعلى العلاقات بين المواطنين. وأنا أرى أن الدين هدفه بناء المواطن الصالح الذي لا يكذب ولا يغش، ويجتهد في عمله وفي فكره دون ان يحاول فرضه على الآخرين أو التعامل معهم بالأسلوب الذي اندس عبر بعض الكتب الصفراء والأفكار السوداء. وأرى أن هذا المواطن الصالح اذا وجد، كفيل بأن يبني المجتمع السليم الذي يقوم عليه الوطن المتماسك القوي القادر على أن ينهض ويعيش في عصره. ولعلي في هذا الصدد أن أشير الى اتجاهات ـ ليست في الإسلام فقط ـ تخلط بين الدين والسياسة كما يبدو واضحا لدى من يسمون في الولايات المتحدة بالمحافظين الجدد الذين يتمسحون بالدين المسيحي باعتباره «الحل» الذي يملي عليهم سياساتهم باعتبارهم مالكي الحق المطلق، بينما من يعارضوهم هم «محاور الشر المطلق»، ويذهبون في ذلك الاتجاه الى درجة أن بعضهم ـ عندما سئل عن مصدر النصائح التي يتلقاها ـ لم يتورع عن القول بما يفيد انه يتلقى إلهاما من السماء.

هذه نقطة، أما النقطة الأخرى، فهي أن إيران سواء أحبها البعض أو كرهها أو خشيها البعض ـ وهناك فعلا خشية حقيقية لدى بعض دول الخليج التي تعرضت وتتعرض لأطماع يرجع بعضها الى عصور امبراطوريات غاربة، والبعض الآخر الى عهد الشاه رضا بهلوي، الذي كان يريد احياء امبراطورية توسعية، والبعض أيضا الى محاولة فرض مفهوم للدين على الآخرين.

اقول إن إيران رغم أي موقف منها أو لها، دولة هامة تعيش على طرف الإقليم العربي الذي نعيش فيه. وانا هنا لا أريد ان ادخل في موضوع حساس هو موضوع السنة والشيعة، فذلك خلاف أعتقد ان زمانه قد ولى، وأن البعض يحاول احياءه وإشعاله حتى في الدول التي لم يعد حتى فيها رماده ـ مثل مصر ـ لأسباب لا تمت الى الحرص على الدين بصلة بل تستهدف بث الفرقة في هذا الشأن علاوة على شئون أخرى بغرض إضعاف الدولة وتقسيم الأمة وزيادة المشاكل التي تعاني منها وتكفيها. ولعلي فقط أذكر بشيوخ أجلاء عملوا على التقريب بين المذاهب بعيدا عن محاولات التنفير والتكفير.

أعود الى موضوعي الأصلي وهو أن ايران دولة اقليمية هامة، وان لها دورا مهما في المنطقة بدليل حضورها اجتماعات الدول المجاورة للعراق، واذا كان الأمر كذلك فليس هناك ما يدعو أو يبرر عدم الدخول في حوار معها لوضع أسس سليمة للعلاقات معها بما يحقق مصالح جميع الأطراف ويتجاوز المخاوف أو القلق وهو ـ كما ذكرت ـ له ما يبرره في بعض الحالات ولعله مبالغ فيه في حالات اخرى. واذا كانت الولايات المتحدة ـ رغم وضوح مقترحات لجنة بيكر/هاملتون ـ ترفض الحوار مع إيران، بل تهددها بالأساطيل والصواريخ وتستصدر القرارات من مجلس الأمن ببدء سلسلة لاشك انها ستحاول تصعيدها من العقوبات، فان لذلك أسبابا تتعلق بها ومنها طبعا التغطية على فشل سياساتها في العراق التي جرت على ذلك البلد الشقيق ويلات التشنج والتعصب العنصري الذي يسقط بسببه مئات الضحايا وتسيل دماء كثيرة. وبالمناسبة فاني لا أعتقد أن الحكومة الامريكية ـ بما تواجهه من مشاكل سياسية داخلية، ومن ورطة خارجية، ومن الضغط الشديد على قدراتها على نشر مزيد من القوات في الخارج مستعدة لدخول مغامرة عسكرية جديدة غير مضمونة العواقب لأنها حتى اذا استطاعت تحقيق ما تتصوره نصرا كبيرا أو صغيرا فإنها ستفجر مشاكل واضطرابات وتشعل نيرانا قد تزيد من الإضرار بمصالحها الذاتية، كما تنشر القلاقل في مناطق ذات اهمية استراتيجية لها. كما لا أعتقد أن ايران راغبة في الوصول في علاقاتها بواشنطن الى نقطة الانفجار حتى اذا كانت تصل بها أحيانا الى ما يشبه حافة الهاوية. وهناك دول غربية حليفة للولايات المتحدة رأت ان من مصلحتها ومصلحة اصدقائها أن تدخل في حوار مع طهران، ومن ذلك قرار الرئيس شيراك ايفاد وزير خارجيته الى طهران ، وهو القرار الذي تعاونت قوي كثيرة فيما يبدو لإجهاضه مع انه كان يمكن ان يعني استئناف حوار يفتح الباب لتسوية الكثير من المشاكل المطروحة.

ومن باب أولى ان تدخل الدول العربية في حوار مع طهران لتحديد جوهر العلاقة التي يمكن ان تقوم بين الطرفين، من دون المساس بأمن أو مصلحة طرف من الأطراف. ولقد كانت هناك حوارات بين مصر وايران كادت تؤدي إلى نتائج ايجابية لولا بعض القوى في طهران، ولكن هذا لا يعني عدم استمرار المحاولة. كما أن دولا عربية بينها وبين ايران مشاكل محدودة لا تمتنع عن الحوار مع طهران، لأن هذا هو الأسلوب الأمثل لتجاوز النزاعات والهواجس والخلافات والمخاوف، كما أن من شأنه الاسهام في تصحيح مسارات تأخذها احيانا السياسة الايرانية، ومن الممكن تطويعها لصالح القضايا العربية التي تبدي طهران اهتماما بها حتى اذا كانت تسلك أحيانا في إبداء هذا الاهتمام وهذا التأييد مسالك يمكن تطويرها بما يضمن مصالح الجميع. ومن المؤكد انه ليس لنا مصلحة في معاداة ايران، وليس لها مصلحة في معاداة العرب، وهذه نظرية استراتيجية يجب الا تصطدم باعتبارات اخرى غير المصلحة العربية.

وتبقى المسألة النووية، ولعل كل ما يقال عن النشاط الإيراني في هذا الشأن لا ينسينا النشاط والخطر الإسرائيلي الذي أخذ يتحجج بأسلوب يجمع بين الغموض الواضح والوضوح الغامض. واذا كنت أتفهم القلق من السلاح النووي في المنطقة، سواء كان اقليميا أو دوليا أتى الينا على بوارج وصواريخ قادمة من بعيد ـ فان الخطر الأكبر هو الخطر الإسرائيلي لأنه يقترن بسياسات عدوانية توسعية. واذا كانت ايران تذكر أنها تسعى للطاقة النووية لأغراض سلمية قد يكون لها ما يبررها فيما قرأناه أخيرا حول حقيقة مخزون مصادر الطاقة الايرانية، وإذا كانت دول أخرى منها مصر التي لحقت بها الأردن تتجه الى الاستخدام السلمي للطاقة النووية ـ وهو قرار سديد تأخر كثيرا ـ فان المنطقي ان تصنع دول المنطقة نظاما اقليميا ـ في اطار انظمة وكالة الطاقة الذرية يشمل ايران ويضمن أن يظل ذلك الاستخدام سلميا. وفي نفس الوقت نصر ونبذل جهودا اكثر مما بذلناه حتى الآن ـ وهو كثير ـ حتى نواجه التهديد النووي الإسرائيلي الذي نعرف أهدافه التهديدية والعدوانية.

خلاصة القول أني أرى أهمية حوار عربي ـ ايراني متعمق لصالح المصالح العربية ولرسم الحدود التي نقبلها لدور إيراني يصبح في هذه الحالة اضافة وليس انتقاصا من الأمن القومي العربي، وليس دورا يستغل كقميص عثمان لأغراض خبيثة سواء من جانب بعض العناصر داخل إيران أو من بعض العرب أو بعض القوى الدولية التي لا تهمها مصالح العرب ولا الإيرانيين لأن عينها الراضية لا تتجه إلا نحو إسرائيل.