هذا هو الحمق

TT

كم كان ظريفا ومحزنا في نفس الوقت وصف نائب الرئيس العراقي لقرار «الغزو » الامريكي للعراق واسقاط نظام صدام، بالقرار الاحمق !

هل نعتبر هذه لحظة اعتراف وتجل من السيد عبد المهدي؟! ام لحظة نقد داخلي قاسية ؟! ام لحظة «ديماغوجية» فجة ؟! لكن كيف تكون  ديماغوجية شعبوية، وهو يتحدث من منبر «نخبة» العالم، منبر دافوس، الخميس الماضي ؟!

عادل عبد المهدي، هو رجل عبد العزيز الحكيم، والحكيم هو رجل الدين الشيعي، والممسك بدفة القيادة السياسية الشيعية في العراق، او قل هو «مرشد» الثورة العراقية! ولولا القرار الامريكي «الاحمق» كما وصفه عبد المهدي، لما استطاع هو ان يتكئ على مقعده في دافوس ويلقي هذه العظات بوصفه نائب رئيس الجمهورية العراقية. ولنا ان نذكر عبد المهدي، برحلة مرشده الى واشنطن من اجل تشجيع الامريكان على البقاء وعدم الرحيل، الامريكان الحمقى !

الحق، ان المفارقة مثيرة للسخرية والمرارة في مداخلة عادل عبد المهدي، وهي تؤشر الى اي مدى وصل الاستخفاف بعقول الناس، والى اي مدى صار «بنك» الهجاء لبوش وامريكا بنكا مربحا للمفلسين في ميدان الانجاز السياسي .

حسنا، اذا كان الامريكان قد ارتكبوا «الكثير من الاخطاء التي غذت العنف في البلاد» وأن اكثر «هذه الاخطاء واعمال العنف كان يمكن تفاديها» كما جاء في مداخلة عبد المهدي، فما هو دور اهل الحكم في العراق الجديد، وهل هم اقل حرصا على بلدهم من الامريكان، وما هو نصيبهم هم من هذه الاخطاء ؟!

«بلاوي» الادارة الامريكية للملف العراقي كثيرة، وعلى رأسها حل الجيش واجتثاث البعث، وتوهم ان عمامة الحكيم ارحم واقرب من جلباب الزرقاوي او عباءة الضاري.

ولكن، ومهما قلنا عن الامريكان فإنهم يظلون «أجانب» عن البلد، ولهم مصالح محددة فيه، ايا يكن شكل هذه المصالح ، ولن يكونوا «أحن» على العباد والبلاد من العراقيين الذين وعدوا الناس بالمن والسلوى.

وعليه فلا تكفي نبرة الصراحة هذه، ولا بادرة البوح والتجلي والنقد الذاتي، بل يجب على اهل الحكم الجديد ان يصححوا أخطائهم ويرتقوا  الى مستوى التحدي، وان لا يلقوا بأثقالهم على الاخرين، فلو ان الامور «مشت تمام» والتطورات جاءت في الاتجاه الوردي، لرأينا جماعة الحكم الجديد كلهم يدعون  الفضل وحدهم  ويحتكرون النجاح بمفردهم، ولا ننسى ذلك الخطاب الشهير الذي القاه عبد العزيز الحكيم امام انصاره العام الماضي، وادعى فيه ان الذي اسقط النظام هو انصار

المجلس وحلفاؤهم وليس الامريكان.. والآن، وبعد تردي الوضع في العراق، يأتي عبد المهدي ويحمل البيعة على الامريكان !

انه سلوك اقل ما يوصف به انه سلوك الضعفاء الهاربين من مواجهة المسؤولية.

كان اجدر بجماعة الحكم الجديد في العراق ان يصلحوا اخطاء الحاضر، لا أن يتجمدوا عند لحظة التغني باسقاط النظام الغابر.. نعم لقد كان سقوط النظام القمعي الرهيب حدثا جميلا، وكان له ان يكون بداية زاهية لعراق جديد، تعود بآثارها الايجابية على المنطقة كلها، ولكن للاسف كان  المنتصرون دون مستوى النصر الكبير !

لا يكفي ان تقول ان الامريكان ارتكبوا اخطاء كثيرة، وهو كلام ليس بالجديد، ولكن اين انت من تصحيح هذه الاخطاء، خصوصا انك في موقع المسؤولية، بل وخصوصا انك انت كحكم جديد ساهمت في تعطيل قرارات ايجابية من اجل تقوية الدولة وتحقيق الامن، ومن ابرز امثلتها حينما خرّب السيد نوري المالكي الحملة الحقيقية ضد ميلشيا الصدر  أخيرا، فمن يحمي الاخطاء اذن ؟!

ان هذا السلوك الهروبي يذكرني بحديث ادلى به الصحافي الاسرائيلي ايهود ايعاري، الذي دخل مع قوات شارون الغازية لبيروت سنة 1982 كصحافي، وطلب لقاء مؤسس حزب الكتائب بيير الجميل، فلما شاهده بيير الجميل، وكان طاعنا في السن، رحب به بحرارة وقال له، بحسب رواية ايعاري : لقد تأخرتم كثيرا . ثم بدا حذرا في اللقاء، وقال انه كماروني لبناني لا يستطيع ان ينكر موقعه في العالم العربي ولا يقدر على البقاء بوصفه عضوا غريبا في الجسد العربي، ولكنه في نفس الوقت يريد القضاء على الميشليا الفلسيطينية التي عاثت فسادا في لبنان، وهشمت الدولة اللبنانية.

منطق غريب، ولذلك كان انطباع الصحافي الاسرائيلي هو ان الشيخ الداهية كان يريد ان تقوم اسرائيل بالنيابة عنهم بالمهام القذرة، وهو لن يقدم لها شيئا في المقابل، كما في الفيلم الوثائقي المميز والطويل لعمر العيساوي، عن اسرار الحرب الاهلية في لبنان .

لا نريد الخوض في تفاصيل تلك المرحلة السوداء من تاريخ لبنان، ولا الدفاع عن ميليشيا ابو عمار وجمهورية الفاكهاني، ولا عن فظاعات  الكتائب وغيرهم، وهي مرحلة قاتمة يريد الجيل الثاني الآن في لبنان اعادتها بكل قبح وانعدام حس.. لا نريد هذا الحديث بل نريد الاشارة الى هذا النمط من السلوك الانتهازي الهارب من مواجهة المسؤولية، والذي لا يريد ان يصنع مصيره، غير شارط ذلك بالنتائج، فإن كانت حلوة، تقدم الصفوف وصعد المنابر وادعى الفضائل، وان كانت مرة، او تعثرت

المسيرة بعض الشيء، نكس، وخنس، ورمى الكرة في ملعب الاخرين !

مستحضرا ربما الصورة التي رسمها الشاعر العربي القديم:

والناس من يلق خيرا قائلون له/ ما يشتهي ولأم المخطئ الهبل!

المسؤولية الاولى والكبرى تقع على عاتق الطبقة الحاكمة في العراق، قبل ان تقع على عاتق احد آخر، يمكننا أن نعدد كثيرا من «البلاوي» التي ارتكبها الامريكان في العراق، وهم برهنوا على جهل غريب صدر من قوة عظمى كأمريكا، بأوليات  ثقافة البلد المراد تغييره، وبتاريخه السياسي، وبطبيعة المصالح التي تتحكم بمكوناته العشائرية والطائفية والعرقية.. هذا كله صحيح ، وترديده ربما يجلب الراحة لمن يريد ان يرتاح بالكلام وفقط ! ولكن نحن ندرك ان كثيرا من الجرائم  و«البلاوي» صدرت ايضا من اهل الحكم الجديد، حلفاء الامريكان، وكما حوسب، ويحاسب، بوش الآن من قبل شعبه، ومجلس نوابه واعلامه ومثقفيه، وكثير من سياسي ومثقفي العالم، فيجب ان تتم محاسبة من ارتكب  اخطاء مماثلة من ساسة وحكام العراق، وهي اخطاء ترتقي احيانا الى درجة الجريمة.. نذكر فقط بسجون الصدر وميليشيا المهدي وفيلق بدر، وادارة الوزارت بشكل طائفي مقيت مثل وزارة الصحة التي تحولت الى اقطاع لعناصر الصدر. وايضا محاسبة من يقول كلاما عن الدولة، ومنطق الدولة في النهار، ثم يغازل القاعدة والبعث في الليل !

نقول ذلك، وخصوصا ان السيد عبد المهدي اعترف بأنهم قد ارتكبوا ايضا اخطاء، وليس الامريكان فقط، ان القرار الاحمق هو ان تسنح لك فرصة تاريخية تؤهلك لأن تكون عظيما، وبانيا، فتأبى إلا أن تكون صغيرا ومخربا... هذا هو الحمق الحقيقي.

[email protected]