تونس: الديك يبيض مرة أخرى

TT

شهدت منطقة المغرب العربي خلال الأيام الأخيرة مؤشرات تعلن بأن لسعها بنيران الإرهاب، سيتخذ خطا تصاعديا وشاملا، حيث لن يقصى أي بلد مغاربي من حالة الاكتواء. وها هي تونس التي عرفت استقرارا متواصلا وسنوات مسترسلة من الأمن، يدوي فيها الرصاص وتتواجه قوات أمنها مع مجموعة تنتمي إلى ما اصطلح على تسميته بالسلفية الجهادية، تسللت داخل البلاد عبر الحدود الجزائرية.

ومن المعلوم أن حالة الاستقرار لم تشوه في تونس سوى مرة واحدة في 11 أفريل 2002، عندما استهدف انفجار المعبد اليهودي في جربة وخلف 16 قتيلا بينهم 11 سائحا ألمانيا، وأفضت التحقيقات ساعتها إلى أن حادث تفجير الشاحنة بالقرب من معبد «الغريبة»، كان نتيجة عملية مدبرة قام بها تونسي بتواطؤ مع أحد أقربائه.

بعد ذلك الحدث الذي أثر سلبا على عدد السياح الألمان الذين كانوا يعدون العمود الفقري للسياحة التونسية، ظن التونسيون أن المسألة عابرة ومثل بيضة الديك لا تتكرر.

وبين حادثة المعبد اليهودي بجربة وبين حادثة الأحداث الأخيرة، التي انتهت بمقتل 12 عنصرا من المجموعة السلفية واعتقال البقية، شهدت أروقة المحاكم التونسية عدة قضايا تخص أشكالا أخرى، مما تعتبر في تماس مع الإرهاب، كمجموعة الشباب التي تسللت إلى مواقع إرهابية ومجموعات أخرى، حاولت مغادرة التراب التونسي بنية الانضمام إلى تنظيمات جهادية، بالإضافة إلى أفراد تم تسليمهم من الخارج في إطار الاتفاقيات الأمنية.

وخلال العام الماضي تمت محاكمة، أكثر من 500 شاب، تتراوح أعمارهم ما بين 25 و28 عاما بتهم تتصل معظمها بمحاولات الالتحاق بالعراق، قصد المساهمة في تحريرها من قوات التحالف. وتتراوح العقوبات ما بين ثلاث وخمس سنوات، وذلك بموجب قانون مكافحة الإرهاب، الذي صادق عليه مجلس النواب التونسي في ديسمبر 2003 والموصوفة بنوده بالصرامة.

وفي الفترة الأخيرة علم التونسيون بمواجهات مسلحة تمت في مناطق قريبة، وتقع في ضواحي تونس العاصمة، بين مسلحين وقوات الأمن، وذلك في الفترة ما بين 23 ديسمبر المنقضي و3 يناير الجاري. وحسب الأطروحة الرسمية التي تداولتها وسائل الإعلام التونسية، فإن عدد المجموعة المتسللة عبر الحدود الجزائرية يبلغ 27 فردا وتحمل أسلحة نارية ومتفجرات من صنع تقليدي. وكانت هذه المجموعة تنوي تنفيذ عمليات إرهابية ضد بعض السفارات وبعض الدبلوماسيين المقيمين في تونس.

وبالتوازي مع الأطروحة الرسمية أو بالتحديد قبل خروج الدولة من صمتها، سادت بعض الأخبار لا دليل على صحتها أو نفيها، من بينها أن المجموعة السلفية الإرهابية كانت تعتزم تفجير فنادق ضخمة وفضاءات ترفيه عمومية، وأنها تحمل أسلحة متطورة جدا، الشيء الذي خلق حالة قلق وتخوف لدى المجتمع التونسي، وأيضا عدم فهم لما يجري، خصوصا أن أول خبر رسمي كان يتحدث عن مجموعة إجرامية، ولم يحدد هوية المجرمين، مما فتح الباب على مصراعيه للخيال كي يشطح، ويتحدث مرة عن مافيا مخدرات وطورا عن إرهابيين باسم الدين.

وإلى جانب استغراب المجتمع التونسي من حصول ما حصل، فإنه على المستوى الرسمي وعلى صعيد المعارضة ومكونات المجتمع المدني، طرح نقاش حول هذه الأحداث ودلالاتها حول أوضاع الشباب والخيارات العامة، وكيفية إيجاد حلول لتحصين المجتمع من هذه الكوارث.

ذلك أنه بإعلان نهاية المواجهات والقضاء على المجموعة سواء بالقتل أو الاعتقال، انتقلت المسالة من الطور الأمني الصرف إلى طور سياسي يضعها تحت المحك ويحاول دراستها، خصوصا أنه ظل هناك اعتقاد طويل رسمي ومجتمعي بأن تونس غير قابلة للاختراق الأصولي أمنيا. ومثل هذا الأمر يشهد به في الحقيقة الموالي والمعارض، إذ ليس من السهولة بمكان أن تسلم تونس من الإرهاب وبالقرب منها جارتها الجزائر التي عاشت عشرية سوداء، سال فيها الدم عميقا وطويلا. بالإضافة طبعا الى خصائص المجتمع التونسي وتجربته الحداثية وبأن تاريخه تاريخ الوسطية والاعتدال وعمليات التحديث التي عاشتها منذ الاستقلال إلى اليوم، تقطع الطريق أمام مظاهر التطرف والأصولية والعنف الديني الموظف.

ولكن ما حصل يكشف أنه يجب ألا يطمئن أي مجتمع لثوابته، حتى ولو بدت راسخة كالوسطية والاعتدال والعقلانية والحداثة. فكل الثوابت الايجابية تحتاج بدورها إلى صقل وتكريس وتأكيد دائم، على اعتبار أنها ثوابت حية لا بد من تغذيتها بشكل واع ومنتبه، خصوصا أن كل مجالات الاختراق أصبحت اليوم متوفرة وبكثرة، سواء من خلال الفضائيات أو تدهور الأوضاع الثقافية والسياسية والاقتصادية ذاتها، التي تجعل من الشباب العربي لقمة سائغة لعمليات غسل الدماغ، ولتبديد طاقتهم في خيارات الموت بدل الحياة.

من هذا المنطلق، وفيما يخص تونس تحديدا، فإن ما أكدته الأحداث الأخيرة، وكذلك ظاهرة الشباب الذين حاولوا الالتحاق بالعراق والانضمام إلى تنظيمات إرهابية، هو ضرورة تفعيل الخطاب الديني الراكد في تونس، والتفكير في آليات تلقي قادرة على الشد واشباع الأسئلة الدينية الجديدة، مع الاستفادة من رصيد الفكر الديني العقلاني والمنفتح التونسي. ومن المهم أن يدرك الخطاب السياسي في تونس أن التأثيرات التي تطال المجتمع ليست دائما وليدة ما هو داخلي فقط، بل ان حدثا في فلسطين أو العراق، يؤثر بشكل مباشر في الفئة الأم في المجتمع التونسي المتمثلة في الشباب.

ولا ننسى أن الخطاب الإعلامي التونسي الداخلي ضعيف، مقارنة بالغزو الإعلامي وغير قادر على المنافسة، بل ان تحليل مضمون بعض صحف قد ينتهي بنا إلى نتائج ذات صبغة ايديولوجية يصعب قبولها في تونس.

وفي هذا السياق تظهر أهمية التسريع النهوض بقطاع الإعلام في تونس، حتى يتوجه نحو خيارات المساهمة في بناء المجتمع والأفكار الإيجابية وذلك بدلا عن إعلانات الاستقالة والتمعش من مليمات التونسيين. وإذا ما وسعنا دائرة النظر فيما يشبه بانوراما المغرب العربي، فإننا سنلحظ خيوطا مترابطة، تنسج طبقا لمشروع يحاول الفتك بالمنطقة وتحويلها الى شرق أوسطية بمعنى العنف والإرهاب وإقحامها عنوة في الحريق الشرق الأوسطي الكبير.

ذلك انه ليس من الصدفة أن تشهد المنطقة المغاربية في شهر يناير الجاري تحركا إرهابيا نشيطا، تمثل في الخلية الإرهابية المكونة من 26 شخصا والتي قامت بتفكيكها قوات أمن المغرب أو دعوة قائد الجماعة السلفية الجزائرية لقتال الفرنسيين!

وهكذا يتراءى لنا كيف نجح الإرهاب في تأكيد حقيقة تحول العالم إلى قرية صغيرة جدا يطالها الشيء الذي يدق كافة نواقيس الخطر، ويحرض الدول العربية والإسلامية على تبني الجدية التامة ومن دون شروط أو مراوغة في معالجة أوضاعنا المعلقة.. وذلك قبل أن تعلق كل رقاب الشباب العربي، ونقصد بذلك طبعا المستقبل العربي.