محور طهران دمشق: خلاف «تكتيكي».. أم بداية الافتراق..؟!

TT

لم تمض سوى أيام قليلة بعد زيارة الرئيس العراقي جلال الطالباني إلى دمشق، التي استغرقت أكثر من أسبوع والتي وصفت بأنها ناجحة وأن نتائجها فتحت الطرق المغلقة بين الدولتين «الشقيقتين» لتصبح آمنة وسالكة، حتى أطلق الناطق بلسان الحكومة العراقية الدكتور علي الدباغ، قنبلة من الوزن الثقيل عندما حمَّل في تصريح مجلجل له، سوريا مسؤولية «نصف» ما يجري في العراق من قتل وأعمال دموية.

بعد هذا التصريح المدوي الذي جاء كإلقاء صخرة كبيرة في بركة راكدة، قال الدكتور علي الدباغ إن نصف القتلة الذين يزرعون الموت والخراب والدمار في شوارع بغداد وبالمدن العراقية يتسربون إلى العراق عبر الحدود السورية، وأن هؤلاء يتم استقبالهم في مطار دمشق وأن سوريا، إذْ تقوم بما تقوم به فإنها تريده ورقة لتثبت للأميركيين أنها رقم رئيسي ومحوري، لا يمكن تجاوزه أو القفز من فوقه.

لقد نظر، الذين لا يتابعون علاقات حليفي «فسطاط الممانعة والمقاومة»! عن كثب إلى هذا التصريح على أنه تطور مفاجئ، ورأى بعض هؤلاء أن هذا الذي قاله الناطق باسم الحكومة العراقية قاله كتعبير عن الامتعاض والغضب من الزيارة الأخيرة التي قام بها الشيخ حارث الضاري إلى دمشق، واستقباله من قبل الرئيس السوري بشار الأسد بحفاوة لا تكون إلا لقادة الدول والشخصيات الاعتبارية، ليس فقط على صعيد المنطقة العربية وإنما على صعيد العالم بأسره.

وحسب رأي هؤلاء الذين فاجأتهم تصريحات الناطق باسم الحكومة العراقية، التي اتهم فيها سوريا بأنها المسؤولة عن خمسين في المائة مما يجري في العراق من مذابح دموية، فإن ما أغضب العراقيين هو أن دمشق حنثت بالوعد الذي قطعته على نفسها للرئيس العراقي جلال الطالباني، خلال زيارته الأخيرة إليها، وأنها بدل تسليم المطلوبين من رموز النظام السابق لحكومة نوري المالكي، وعدت الشيخ حارث الضاري بأنها لن تسلِّم ولن تطرد أحداً، وأن هذه الخطوة غير واردة على الإطلاق.

وهنا فإن هناك من يقول أن هذا التاجر الشامي الشاطر، الذي يهمه إرضاء الأميركيين أكثر مما يهمه إرضاء إيران ومعها الحكومة العراقية، قد أعطى للشيخ حارث الضاري ولسنِّة العراق ما أرادوه من خلال التأكيد على عدم التسليم أو طرد أي من المطلوبين لبغداد، سواءً من رموز النظام السابق أو من قادة المجموعات «الإرهابية»، وفي الوقت نفسه فإنه قد استجاب للرغبة الأميركية وإظهار المزيد من حسن النوايا، بالأفعال وليس بمجرد الأقوال، من خلال إصدار قرار أعطى للعراقيين المقيمين على الأراضي السورية مهلة خمسة عشر يوماً للمغادرة بصورة فورية.

إنها فعلاً شطارة ما بعدها شطارة، فهذا الإجراء الذي يبدو للوهلة الأولى أنه إداري و«روتيني» يأتي، وبخاصة في هذه الفترة الحساسة والحاسمة، كاستجابة للرغبة الأميركية وهو يأتي في الوقت نفسه كنصف برٍّ بالوعد الذي قطعته دمشق على نفسها لجلال الطالباني، وأيضاً للشيخ حارث الضاري والمفترض لو أن الأمور سمن عسل بين طهران ودمشق ألا يثير هذا الإجراء الحكومة العراقية التي مهما اقتربت من الأميركيين ومواقفهم فإنها تبقى أقرب كثيراً الى إيران والمواقف الإيرانية.

ولذلك وبما أن ظاهر الأمور هو هذا الظاهر، فأين هي المشكلة يا ترى ولماذا فاجأ الناطق بلسان الحكومة العراقية دمشق بهذه الهجمة الغضنفرية غير المسبوقة، على دولة أصبحت مرجعيتها منذ انتصار ثورة الخميني في عام 1979 هي المرجعية الإيرانية..؟!

المشكلة تكمن في أن التطورات الأخيرة كلها، قد أدت إلى تضارب الأولويات بين دمشق وطهران. فدمشق التي تعتبر المحكمة الدولية أولويتها الأولى، التي لا غيرها أولوية، باتت تنظر إلى مسألة الملف النووي الإيراني كقضية إن لم تكن ثانوية، فإنها غير أساسية وطهران التي تعتبر هذا الملف النووي أولوية لا غيرها أولوية، باتت تنظر إلى مسألة المحكمة ذات الطابع الدولي أو «المحكمة الدولية» المعنية باغتيال رفيق الحريري كقضية ثانوية جداً، يجب ألا تكون سبب التأزيم المتصاعد في لبنان، ولا سبب كل هذا التوتر الذي تشهده المنطقة.

لقد غدت المعادلة على هذا النحو، فإيران في ظل التحشدات والتهديدات الأميركية المتصاعدة، لم تعد قادرة على التفكير في مشكلة إلا مشكلة الملف النووي وسوريا التي أخذ الضغط على عنقها يزداد يوماً بعد يوم باتت لا تفكر ولا تسمح لحلفائها وأصدقائها بالتفكير إلا بالمحكمة الدولية، التي هي بالنسبة إليها مسألة حياة أو موت والتي من أجلها أصبحت مستعدة لإغراق اللبنانيين في مياه البحر الأبيض المتوسط، ودفع لبنان للاحتراق بنيران الحرب الأهلية.

وهكذا، وكنتيجة لتضارب وتعارض هذه الأولويات بين دمشق وطهران، فقد جاء ذلك التصريح، الذي بدا مستغرباً في حينه، والذي أدلى به وزير الخارجية السوري وليد المعلم، خلال زيارته الأخيرة إلى طهران الذي قال فيه، متلائماً مع وجهة النظر الأميركية، إنه لا أمل بإخراج العراق من مأساته والحفاظ على وحدته إلا بحل الميليشيات المذهبية، والمعروف أن هذه الميليشيات المعنية هي التي تشكل القوة الإيرانية، العسكرية والسياسية، على الساحة العراقية.

في تلك الفترة ومع بداية الاتصالات السعودية ـ الإيرانية التي لا تزال مستمرة ومتواصلة انتقل مسؤول الأمن القومي الإيراني علي لاريحاني من الرياض إلى دمشق، حاملاً اقتراحات تم الاتفاق بشأنها مع المسؤولين السعوديين لتهدئة الأزمة اللبنانية المتفاقمة. لكن الرئيس السوري بشار الأسد واجهها بالرفض الكامل، جملة وتفصيلاً، لأنها لا تتضمن معالجة مقبولة لمسألة «المحكمة الدولية» من وجهة النظر السورية.

بعد هذا اللقاء الذي تزامن مع ذلك اللقاء الشهير بين محمود عباس (أبو مازن) وخالد مشعل والذي انتهى إلى لا شيء، أرسل الرئيس السوري وزير خارجيته إلى طهران على عجل لاستطلاع الأمور ومعرفة المستجدات، ولذلك، ولأن وليد المعلم لم يسمع من وزير الخارجية الإيراني، إلا ما سمعه بشار الأسد من علي لاريحاني، فقد أدلى بالتصريح التصعيدي الآنف الذكر الذي قال فيه، لإغاظة طهران وإغضابها، إن استقرار العراق ووحدته مرهونان بالتخلص من الميليشيات الطائفية.

الآن أصبحت المواقف بين دمشق وطهران متباعدة ولو قليلاً، وغدت الطرق بينهما مزروعة ببعض الأشواك، ولذلك فإن المؤكد ان هذا التباعد سيأخذ مداه الأقصى، وأن «فسطاط الممانعة»، ستعصف به الأنواء إن لم يتوصل سعاة الخير إلى صيغة بين الطرفين، تحافظ على الأولوية الإيرانية، وفي الوقت نفسه تحافظ على الأولوية السورية التي هي المحكمة الدولية.

إذا نجحت التحركات الحالية في نزع صاعق التفجير من أزمة الملف النووي الإيراني، وإذا تمكن سعاة الخير من إيجاد لغة مشتركة بين طهران وواشنطن، مع بقاء سيف المحكمة الدولية «مصلتاً» فوق رقبة سوريا، فإنه لا «فسطاط ممانعة» بعد اليوم، وأنه ستطرأ متغيرات رئيسية على موازين القوى إن بالنسبة للمأساة العراقية، وإن بالنسبة للمشكلة اللبنانية والمشكلة الفلسطينية.

إنه تباعد جدي وليس «تكتيكيا»، وأن هذا التباعد سيتحول إلى قطيعة ثم عداوة لدودة، إن لم تجد طهران وسيلة للتوفيق بين أولويتها والأولوية السورية.. إنه من غير الممكن أن تبقى دمشق ساكنة وصامتة وسيف «المحكمة الدولية» يرتفع فوق عنقها إنها، أي دمشق، إن هي شعرت بأن الإيرانيين ذاهبون حتى نهاية هذا الشوط بدونها، فإنها ستبادر إلى إعطاء الأميركيين كل ما يريدونه مقابل ضمانات أميركية، إن لجهة بقاء نظامها، وإن لجهة المحكمة ذات الطابع الدولي.