الأصولية الشيعية ليست بديلا

TT

سألت السنة الماضية أحد الساسة الأمريكيين: ألا ترون أن مشروعكم في قد فشل نهائيا، ولم يحقق الأهداف المرجوة منه، بعد أن تحول البلد إلى خراب ودمار شامل؟

رد علي محاوري بالقول «إن هذه هي الصورة الشائعة عند العرب، لكن الحقيقة مغايرة.. إن ما نشهده حاليا في العراق هو صراع بين الأصوليتين الأساسيتين المعاديتين لنا: الأصولية السنية والأصولية الشيعية.. ولا يزعجنا أبدا هذا الصراع ولا يضر مصالحنا في العراق».

لا تحتاج هذه الإجابة بطبيعة الحال للتعليق، وحسبنا الإشارة إلى أن فيها تأكيدا على حقيقة إفلاس المشروع الأمريكي في العراق، إذ ليست الفتنة الأهلية التي ولدها الاحتلال مكسبا يحسب لصالح الطرف الأمريكي الذي دخل العراق في سياق الحرب المعلنة ضد الإرهاب، فتحولت الساحة العراقية إلى بؤرة استقطاب وتصدير لكل أشكال الإرهاب الإقليمي.

وكنت قد قرأت على نطاق واسع في أدبيات المحافظين الجدد الأمريكان في إطار تصورهم لمشروع التدخل في العراق، ودفاعهم عنه، أن الساحة العراقية هي المدخل الأمثل لتغيير أوضاع المنطقة وتصدير الحريات الديمقراطية إليها، باعتبار أنها تجمع بين خصائص ثلاث شديدة الأهمية هي وجود نخبة متعلمة ذات تكوين ثقافي حديث، وإمكانات اقتصادية واسعة، ومؤسسة دينية متصالحة مع قيم الليبرالية والعلمنة.

من هذا المنظور، يقع التمييز بين التقليد السني الموصوف بالتشدد والانغلاق والجمود على النص التراثي، والتقليد الشيعي الموسوم بالانفتاح والقدرة على التجدد بالنظر للفسحة الاجتهادية الواسعة المتاحة للمرجعيات الفقهية في تأويل النص وتطبيقه في الواقع.

وقد استندت هذه التصورات الى بعض الأعمال الاستشراقية الضحلة، وساهم في تغذيتها «برنارد لويس» الوجه الاستشراقي المعروف بقربه من تيار المحافظين الجدد الأمريكيين.

وكان التصور ذاته قد بدأ في صفوف اليسار الثقافي الغربي، أيام اندلاع الثورة الإيرانية، التي بدت له عندئذ «أول ثورة دينية ديمقراطية» حسب عبارة الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو الذي اعتبرها أهم ثورة جذرية في العصور الحديثة، لأنها قننت للخروج من «سلطة السياسة» ذاتها.

وحاول فوكو ـ الذي كانت ثقافته الإسلامية سطحية ـ تبرير افتتانه بالثورة الإيرانية، من منظور مقارنة ساذجة بين «الإسلام السني الدوغماني» و«الإسلام الشيعي الثوري».

بيد ان الموجة نفسها طغت في الساحة الإسلامية السنية، ووصلت إلى حد تحول عشرات شباب الحركات الإسلامية (خصوصا في منطقة المغرب العربي) إلى التشيع، وإن كان الأمر يتعلق هنا بتشيع سياسي ثوري، مفتون بأدبيات الاستشهاد والتمرد التي بلورها المفكر الإيراني علي شريعتي في نصوصه الجميلة حول التجربة الحسينية، وفي استخدامه البارع لرموز التراث الشيعي في اتجاه قراءة يسارية لما سماه بالتشيع العلوي (تشيع الفقراء والثوار) في مقابل التشيع الصفوي (تشيع المستكبرين والمستبدين).

والمعروف أن أفكار شريعتي (الذي توفي قبل انتصار الثورة) ألهمت قطاعا واسعا من اليسار العربي، كما ألهمت اليسار الإيراني نفسه (حركة مجاهدي خلق). بيد أن سحر الثورة الإيرانية سرعان ما انقشع بعد مرور السنوات الأولى من قيام الجمهورية الإسلامية، فتحولت إيران في الوعي الغربي إلى نموذج للدولة القمعية، على الرغم من حالة التعاطف النسبي مع تجربة الرئيس خاتمي الذي استمال الجميع بلغته الفلسفية المهذبة الداعية لحوار الحضارات.

كما أن الصراع المحتدم داخل الفكر الإيراني نفسه بين الاتجاه المحافظ والاتجاه الإصلاحي (الذي يمثله مفكرون جدد بارعون من نوع عبد الكريم سروش، ومصطفى ملكيان ...) قد وجه النظر إلى ثغرات ونقاط ضعف التقليد الشيعي المهيمن، ولذا كان الرهان على النفس الديمقراطي لدى مرجعية النجف الشريف رهانا خاسرا، باعتبارها تمثل الخط التقليدي المتشدد المقطوع الصلة بالتحديث، وتشكل قطيعة مع خطوات التجديد التي بدأت في الحوزة نفسها في الستينات والسبعينات مع العلامة محمد باقر الصدر.

والواقع أن هذه الصورة الساذجة للمقارنة بين التقليدين السني والشيعي لا تثبت أمام التمحيص العلمي، فالتقليدان ينتميان في الواقع لنفس النسق المرجعي، ولا يختلفان إلا في جزئيات معدودة، إذا صرفنا النظر عن الخلفيات التاريخية الآيديولوجية التي اكتنفت نشأتهما وتطورهما.

وما المشكل القائم حاليا في العراق (في بعض جوانبه على الأقل) إلا مظهر من مظاهر هذا العجز المزمن عن تجاوز تركه صراعات الماضي التي مزقت صف الأمة، حتى ولو كانت الرهانات هذه المرة مغايرة، والمسؤولية الكبرى فيها تتحملها سلطات الاحتلال الأمريكي.