وجه آخر لأميركا

TT

أسعدني الحظ أن أقيم في ولاية فرجينيا. ولاية جميلة مخضرة وحديثة. أسعدني الحظ أكثر بأن ألتقي مجموعة من السيدات الأميركيات الفضليات، اللائي يشكلن مجموعة من الجمعيات الأسرية الإنسانية، التي تثري النفس بكل ما هو جميل ومفيد. ولقد لبيت كل الدعوات الكريمة التي وصلتني، فقد كانت لي بمثابة دائرة معارف واسعة تعلمت منها الكثير، واستمتعت بوجودي معهن كثيراً. هؤلاء السيدات يكوّن شبه جمعية يلتقي أعضاؤها السيدات أسبوعياً في منزل إحداهن، وللجمعية رئيسة وسكرتارية دورية يتناوبن فيها العمل شهرياً. أجمل وأعظم ما في هذه المجموعات أنهن سيدات معظمهن ودعن الشباب ودخلن إلى أبواب الشيخوخة والكهولة. ولكن لا تنقصهن الأناقة والذوق السليم في اللبس والميكياج، وجوهن نضرة وأجسامهن مشدودة، والابتسامة لا تفارق شفاههن. في هذه الاجتماعات التي تتم دوريا تختار السكرتارية موضوعا حيويا يتصل بحياتهن الخاصة أو موضوعاً عاماً يتحاورن حوله وترسل السكرتارية رأس الموضوع إلى كل عضو منهن لتكون على بينة من الأمر الذي سيناقش، وتتم هذه الاجتماعات كل يوم أربعاء من الساعة العاشرة صباحا إلى الثانية عشرة ظهرا. يتراوح عدد الأعضاء بين خمس وعشرين وأربعين امرأة، وهن حريصات كل الحرص على أن تصل الدعوة إلى كثير من الأجنبيات من القارات الأخرى: آسيا، أفريقيا، أوروبا، حتى تكون تلك الاجتماعات ثرة بكل المعارف التي يتقن إلى معرفتها والتزود بثقافاتها الاجتماعية والإنسانية وموروثاتها الدينية والأخلاقية، تقاليدها وعاداتها حتى إلى نوعية المأكولات والأطباق المشهورة لديها.

في أول اجتماع وصلتني الدعوة والموضوع الذي ستتحدث فيه الأعضاء، كان عن تعليم المرأة وثقافتها ومعرفتها وواجباتها، والمدى الذي وصلت إليه من تقلد في الوظائف المختلفة ونظرة المجتمع إليها، ومدى تقبله لعملها خارج بيتها في بلاد غير بلادهم. وحقيقة كانت جلسة رائعة تحدثت فيها كل الموجودات عن تعليم المرأة وثقافتها، أفادني كثيراً أن أشرح في الجلسة، مدى ما وصلت إليه المرأة السودانية من تعليم، أبنت لهن أننا في السودان من أوائل الدول العربية والأفريقية التي نالت فيها المرأة حظاً وافراً من التعليم، وأن نسبة التعليم الجامعي عالية، وأن المرأة في السودان اليوم مستشارة للرئيس ووزيرة وسفيرة ونائبة لرئيس القضاة وأستاذة وطبيبة ومحامية ومهندسة وقائدة في القوات النظامية وسيدة أعمال، بل وأن ثلت الوظائف الحكومية تشغلها المرأة اليوم. ولقد تأسفت كثيراً إذ رأيت الدهشة تملأ عيون هؤلاء السيدات واللائي كن لا يعرفن عن بلادنا إلا القليل القليل، ولقد ذكرت لهن ذلك فقلت لهن أننا نعرف عنكم وعن بلادكم الكثير، ولكنكم لا تعرفون عنا شيئا، ولقد اعترفن بذلك وأرجعن سبب ذلك لقلة المطبوعات والقصور الإعلامي، ولكن أسعدني أن أسمع من بعضهن أنهن يسعين إلى تعلم اللغة العربية حتى تزداد ثقافتهن وعلمهن عن بلادنا وعن البلاد العربية بشكل عام.

وفي جلسة أخرى استمتعت غاية الاستمتاع بالموضوع الذي طلب فيه منا أن تتحدث كل واحدة عن «أمها» ما اكتسبته منها، وما تأثرت به منها في حياتها، وكيف عاشت أمها وما الخبرة والتجربة التي أفادتها في حياتها ثم لتقارن كل واحدة منا بين جيل أمها والجيل الذي تعيش فيه الآن. وحقيقة كانت جلسة ممتعة لخصتها أنا في أن الأم مهما كان لونها أو دينها أو جنسيتها هي نفس الام الشمعة التي تحترق لتضيء دروب أبنائها إلى ما فيه خيرهم وصلاحهم.

وفي جلسة ثالثة دار الحديث عن التقاليد والعادات والمعتقدات المرتبطة ببعض الخرافات التي يؤمن بها كثير من الناس سواء كانوا في أمريكا أو أوروبا أو آسيا، ولقد صادف ذلك عيداً في أمريكا يسمونه بعيد «الهالاوين» وهو عيد يزينون فيه بيوتهم من الداخل والخارج بالأشباح والوجوه المخيفة التي تمثل الشياطين والجن والأشرار بكل ألوانهم، يلبسون أقنعة مخيفة لهذه الأشباح ويرتدون ملابس غريبة وعجيبة وقبل بداية هذا العيد العجيب ينثرون بعضا من القرع «اليقطين» بألوانه البرتقالية الزاهية يضعونه أمام منازلهم ليعرف كل الناس أن أهل المنزل يحتفلون «بالهالاوين» ليقبلوا عليهم يوم العيد في المساء مع أطفالهم ليتناولوا معهم الحلوى التي يجمعها الأطفال بأعداد كبيرة في ذلك المساء عند زيارة كل بيت بعد أن يرتدي الأطفال تلك الأقنعة المخيفة.

ولقد تحدثت إليهم أننا لم نكن نعرف أن الأمريكيين يؤمنون بالخرافات الى درجة ان يفردوا لها عيدا يحتفلون به، ولقد أجبتهم عن أسئلتهم ان كنا في بلادنا نؤمن بالاشباح والشياطين والأرواح الشريرة فذكرت لهم أنه قد جاء ذكر الشياطين في القرآن، وأن الله غضب على إبليس عندما أمره أن يسجد لآدم ورفض إبليس أمر الله فلعنه الله وأخرجه من رحمته، ومنذ ذلك الحين أصبح إبليس رمزا للشر يغوى به كل إنسان، إلا من اتبع رضوان ربه واستمسك بالخلق القديم.

أيضا تحدثت في تلك الجلسة بعض المتحدثات عن هواياتهن وكيف يقضين أوقاتهن في ما يفيد أسرهن ومجتمعاتهن، خاصة تلك الفئات التي تحتاج إلى أن تمتد إليها يد المساعدة والإنقاذ.

حقا ان جمعية استضافة الأجنبيات وخدمة المعلومات، هي مؤسسة رائعة تؤدي دورها الرائع الفريد بأقل الجهد والتكاليف، وأجمل من كل ذلك أن كل اجتماع تعقبه مائدة حافلة بالمشروبات والمأكولات الخفيفة التي تشترك في إعدادها أعضاء الجمعية كل بجهدها مما يعطي المشتركات شعورا بأنهن تقاسمن الخبز والملح وأصبحن أخوات تربطها المودة والحب والإخلاص.

تبقى ان أقول وبكل صدق أن هذه الاجتماعات التي ربطتني بهؤلاء السيدات الامريكيات قد غيرت فكري تماما عن المجتمع الأمريكي والذي كنت أنظر إليه نظرة بعيدة كل البعد عما كنت أعلم وأعتقد. لقد وجدت فيهن دماثة في الخلق ولطف في المعاملة ودفء وذوق في التعامل، كشفت وجهاً إنسانيا آخر لأمريكا، وجها غير الذي عرفناه وعهدناه، وأنا جد مدينة لهؤلاء السيدات اللائي غيرن فكرتي وآرائي عن المجتمع الأمريكي، وما يؤمن به عن إخوانه في الإنسانية، فالتحية المستحقة إذن إلى كل السيدات الفاضلات اللائي عرفتهن واجتمعت بهن وتعلمت وتثقفت وأثريت معلوماتي منهن، فإليهن أهدي خالص تقديري ومودتي وإعزازي.

* باحثة وكاتبة سودانية