فضيحة بن اليعازر: ولكل زعيم إسرائيلي مجزرته

TT

كل زعيم إسرائيلي وله مجزرته. هكذا كان الحال منذ حرب العام 1947 حتى الآن. أولهم في الذاكرة المعاصرة مناحم بيغن الذي ارتكب مجزرة دير ياسين. وآخرهم ايهود اولمرت ووزير دفاعه عمير بيريتس اللذان ارتكبا مجزرة تدمير الأحياء السكنية في ضاحية بيروت، فقتلا مئات المدنيين تحت حجة السعي لقتل قادة حزب الله. وبينهما مجزرة قانا اللبنانية التي ارتكبت تحت رئاسة شمعون بيريز العمالي الموصوف بأنه رجل الاعتدال والسلام. أما المجازر التي ارتكبها آرييل شارون منذ أن كان ضابطا إلى أن أصبح رئيسا للوزراء، فهي كثيرة كثيرة، أهلته لأن يحمل لقب (رجل المجازر) في دولة إسرائيل.

تبرز في المجازر الإسرائيلية ظواهر لافتة للنظر. فهي ليست حكرا على الموصوفين بالتطرف من اليمين أو من الأصوليين أو من حزب الليكود، بل ساهم فيها بإصرار وتصميم زعماء موصوفون بالاعتدال من اليسار ومن العلمانيين ومن حزب العمل، ومن ديفيد بن غوريون إلى آخر تلامذته شمعون بيريز. وميزة أخرى في هذه المجازر أنها تنفذ في لحظات الانتصار وليس في لحظات المعارك فقط. مجازر اللد والرملة ارتكبت مع إتمام السيطرة الإسرائيلية على أرض فلسطين عام 1948. مجزرة صبرا وشاتيلا ارتكبت في بيروت بعد انتهاء المعركة العسكرية عام 1982. أما مجزرة بنيامين بن اليعازر قائد وحدة شاكيد في الجيش الإسرائيلي في سيناء فقد ارتكبت بعد انتهاء المعارك في حرب العام 1967. ميزة ثالثة يمكن التوقف عندها وهي أن المجازر ترتكب عندما يكون الجيش الإسرائيلي قويا ومسيطرا. مجزرة مخيم جنين (2002) وقعت أثناء مواجهة بين الجيش الإسرائيلي (الذي لا يقهر) وبين حفنة من المقاتلين المسلحين بالبنادق. والاغتيالات للقادة الفلسطينيين، والتي تتم عادة بالمسدس أو بالبندقية أو بالقنبلة اليدوبة، استعملت إسرائيل من أجلها قنابل طائرات الـ (إف ـ 16). ميزة رابعة وهي أن الإسرائيليين الذين يرتكبون المجازر لا يخجلون منها، بل ويتباهون بها، وينالون من المجتمع الإسرائيلي جوائز قيمة بسببها، إذ يخرجون من الجيش ليصبحوا قادة سياسيين للأحزاب أو للدولة، ونادرا ما دفع مسؤول إسرائيلي الثمن عن مجزرة ارتكبها.

أحيانا يتدخل القدر ويتولى بنفسه تنفيذ العقاب. فـ«الجبار» آرييل شارون يرقد فاقد الوعي في المستشفى منذ زمن. مات وهو حي، ويتفرج على موته حيا أقرب الناس إليه، وبمن فيهم أصدقاؤه وخصومه. ولكن القدر كان أقسى في عقابه مع مناحم بيغن صاحب مجزرة دير ياسين. لقد وصل مناحم بيغن إلى السلطة عام 1977، وبعد الأداء العسكري الإسرائيلي المتعثر في حرب العام 1973. يومذاك خسر حزب العمل السلطة لأول مرة. وجاء اليمين إلى السلطة في إسرائيل لأول مرة. وتم تحت إمرته شن الحرب على لبنان (1982) من أجل القضاء على الفدائيين وعلى منظمة التحرير الفلسطينية. كان بيغن هو القائد السياسي وكان شارون هو القائد العسكري، وظنا أنهما سيطرا على لبنان بعد توقيع اتفاق الإذعان، اتفاق 17 أيار. ولكن ذلك الاتفاق ما لبث أن تساقط وهوى. وأدرك بيغن أنه خسر سياسيا حرب لبنان التي انتصر فيها عسكريا، أدرك أن القوة العسكرية لم تعد كافية لفرض السيطرة، فاعتزل العمل السياسي، وأصيب بمرض الكآبة، وقضى أيامه الأخيرة جالسا عند نافذة منزله يحدق في المنظر أمامه. ولم يكن المنظر الذي يحدق فيه سوى قرية دير ياسين التي شهدت مجزرته، والتي تحول جزء منها إلى مستشفى للمجانين.

الآن .... يتقدم إلى واجهة المجازر بنيامين بن اليعازر. حاليا هو وزير البنية التحتية في إسرائيل في وزارة ايهود اولمرت (2007)، وسابقا هو وزير الدفاع في وزارة آرييل شارون التي تشارك فيها حزبا الليكود والعمل (2001)، أما المجزرة التي تجلله فقد تم إنجازها يوم كان قائد (وحدة شاكيد) في حرب العام 1967، وقتل فيها ما لا يقل عن 250 أسيرا مصريا وفلسطينيا (يعمل تحت إمرة الجيش المصري) بعد استسلامهم، وبعد نزع السلاح منهم، مسجلا بذلك جريمة حرب كاملة الأوصاف والمعايير. القصة قديمة ومعروفة ولكنها عادت إلى الأضواء مجددا بعد فيلم وثائقي أذاعه التلفزيون الإسرائيلي وجاء متضمنا شهادات لجنود وضباط عايشوا تلك المجزرة. في المعلومات السابقة عن المجزرة نقرأ ما يلي:

* أنه في العام 1994 أصدر المؤرخ الإسرائيلي (أوري ميليشتاين) كتابا عن المجزرة، استند فيه إلى العديد من شهادات الضباط والجنود.

* وفي 16/8/1995 تحدث المؤرخ الإسرائيلي آرييه إسحاقي عن تلك المجزرة في الإذاعة الإسرائيلية، ذاكرا بعض تفاصيلها.

* وأنه في العام 1995، وفي لقاء مع رئيس الوزراء الإسرائيلي اسحق رابين والرئيس المصري حسني مبارك، فاتحه الرئيس مبارك بشأن تلك المجزرة في سيناء، وأقر رابين بوقوعها.

* وفي 2/3/2001، وعند اختيار بن اليعازر وزيرا للدفاع في حكومة شارون الائتلافية، كشف النائب الفلسطيني عزمي بشارة، وفي مقالة له نشرتها مجلة «فصل المقال» عن مسؤولية بن اليعازر عن قتل 250 جنديا مصريا وفلسطينيا في حرب العام 1967، مستندا إلى المعلومات التي نشرها المؤرخ الإسرائيلي ميلشتاين.

* وأخيرا جاء فيلم التلفزيون الإسرائيلي الوثائقي ليقدم شهادات جديدة عن المجزرة، وليعيد إحياء وقائع الجريمة، وليحدد مسؤولية بن اليعازر عنها. حمل الفيلم إسم «روح شاكيد»، وأخرجه الإسرائيلي (ران أدرليست)، وعرض الفيلم لأول مرة يوم 25/2/2007.

وأثار الإحياء الجديد للمعلومات القديمة عن المجزرة، غضبا شديدا في مصر، دفع الحكومة إلى إلغاء زيارة كانت مقررة لبن اليعازر، ودفع نواب مجلس الشعب إلى المطالبة بمنعه من دخول مصر، وبطرد السفير الإسرائيلي، وبتجميد التطبيع مع إسرائيل، وبإلغاء اتفاقية التجارة (الكويز) بين مصر وإسرائيل.

ولكن الأمر المؤلم أكثر من غيره، أن بن اليعازر انبرى للدفاع عن نفسه، وبلور في هذا الدفاع جريمة عنصرية جديدة، وذلك حين قال إن القتلى لم يكونوا من المصريين بل من الفلسطينيين. وإذا كان ذلك صحيحا فهو لا ينفي الجريمة بل يؤكدها على لسان صاحبها. وإذا كان ذلك صحيحا فإن من مسؤولية القيادة الفلسطينية أن تطالب بمحاسبته ومعاقبته، وبخاصة أن بن اليعازر واصل ارتكاب مجازره ضد الفلسطينيين، سواء في الضفة الغربية أو في قطاع غزة. في الضفة الغربية أشرف وهو وزيرا للدفاع على مجزرة مخيم جنين، حيث قام الجيش بأوامر منه بهدم البيوت على أصحابها بالجرافات. وحيث قام الجيش بأوامر منه بقتل الأسرى في ساحة المخيم عقابا لهم على أنهم قاتلوا الجيش الإسرائيلي. وحيث قامت إسرائيل بتوجيهات منه ومن رئيسه شارون برفض استقبال لجنة التحقيق التي شكلتها الأمم المتحدة بشأن مجزرة مخيم جنين. أما في قطاع غزة فقد ارتكب بن اليعازر مجزرة موصوفة في 1/7/2002، حين قامت طائرة من نوع (إف ـ 16) بإلقاء قنبلة تزن طنا على عمارة سكنية بهدف اغتيال المسؤول في حماس صلاح شحاده. يومها قتل صلاح شحاده وقتل معه 15 شخصا منهم 9 أطفال و3 نساء ورجلين طاعنين في السن، وجرح 150 شخصا كان 15 شخصا منهم في حالة الخطر. يومها اعترف بن اليعازر بجريمته علنا وقال مبررا قتل المدنيين «إن المعلومات التي استخدمت للتخطيط للعملية لم تكن دقيقة»، وقال «حسب المعلومات التي جمعناها لم يكن من المفروض وجود مدنيين في الموقع». و«الموقع» الذي يتحدث عنه هو عمارة سكنية، فماذا يوجد في عمارة سكنية غير السكان المدنيين؟

.... ولكن بنيامين بن اليعازر هو زعيم إسرائيلي. ولكل زعيم إسرائيلي مجزرته. وهو صاحب مجازر متتالية، حتى أن أصحابه أطلقوا عليه تحببا لقب (شارون الصغير).