مؤتمر بغداد: هل يكون فرصة لردم الهوّة؟

TT

للمؤتمر الدولي الذي عقد في بغداد أمس، أكثر من مغزى. فهو أولا يعكس توجها، وليس بالضرورة قناعة، لدى الولايات المتحدة بأن حل المعضلة العراقية قد لا يتم عبر توتير الأجواء مع المحيطين والمعنيين بها، بل عبر حوار هادئ حتى مع أكثر الأطراف بعدا عن المواقف الأمريكية. لكنه من جهة أخرى يوفر للإدارة الأمريكية حلا وسطا بين حاجتها الداخلية إلى إبداء قدر اكبر من التجاوب مع توصيات مجموعة دراسة العراق، التي دعت إلى مؤتمر دولي حول العراق، والى حوار مباشر مع طهران ودمشق، وبين رغبتها الخارجية في عدم إبداء مرونة تجاه أطراف قد تفسر تلك المرونة ضعفا من جانبها، ينسحب بدوره إلى ملفات عالقة أخرى. لذلك يبدو هذا المؤتمر في المنظور الأمريكي، تناغما متحفظا مع كلا التوجهين، ولذلك فإنه سيكون اقل من مؤتمر دولي، على الأقل من ناحية المستوى التمثيلي فيه، واكبر من مؤتمر إقليمي.

عراقيا يبدو المؤتمر فرصة جيدة للحكومة العراقية كي تبرهن على أنها تأخذ بزمام المبادرة، فبعد أن كان العراق مجرد «موضوع» على طاولات نقاش الآخرين، يدخل اليوم المؤتمر بوصفه «ذات فاعلة»، وبدلا من أن يخضع لأجندات الآخرين، فهو يحضر أجندة النقاش لهم، الحكومة العراقية ربحت ابتداء عبر صفقة إخراج المؤتمر، وعبر انتزاع اعتراف ضمني بحقها في المبادرة، وبقطعها الطريق على محاولات تدويل القضية العراقية، والتي ترى فيها التفافا على العملية الديمقراطية، ولكن يبقى عليها أن تكون متمتعة بالحنكة الكافية لإدارة هذه المبادرة، واستثمارها بالخروج منها بربح اكبر، وبما يضع مخرجاتها موضع التطبيق.

إقليميا، يبدو المؤتمر متناغما مع عدد من الخطوات والتحركات التي شهدتها الساحة مؤخرا باتجاه «التهدئة» في مختلف الملفات، لا سيما تلك التي برزت فيها دبلوماسية سعودية نشطة، عكست إلى حد كبير حساسية ايجابية متصاعدة تجاه مقاومة الخيارات اللاعقلانية والشرر المتطاير من مصادر متعددة منذرا بحرائق تستعصي على الإطفاء. وربما يكون الترحال العربي باتجاه بغداد وقبل أسبوعين من قمة الرياض العربية بداية تحول ما في التعاطي العربي مع الشأن العراقي بعد زمن طويل من تقريع الذات، بسبب ما يطلق عليه كثير من السياسيين والمثقفين العرب «التخلي عن العراق ليكون لقمة سائغة لإيران».

دوليا، يبدو المؤتمر طريقة أخرى للقول بأن أمريكا تعتذر عن إقصائها المشاركة الدولية عن الشأن العراقي، من دون أن تعتذر فعليا. فبإخراج المؤتمر بوصفه «مبادرة» عراقية يتم الحد من معظم التفسيرات الدبلوماسية التي ستنتج عن إظهاره بوصفه «مبادرة» أمريكية، خصوصا أن نهج الإدارة الأمريكية الحالية تجنب غالبا إظهار الولايات المتحدة بمظهر من يجازف بعرض «المبادرات» على الآخرين، وفضل مظهر من يجازف بوضع «الشروط»، ربما نتيجة لفهم قاصر لما يمكن للقوة العظمى الوحيدة أن تقوم به في ظل غلبة مفهوم القوة على التسويات السياسية الدولية.

ولكل هذه الأسباب، يبدو المؤتمر «فرصة» مواتية للشروع بقراءة جديدة لمعطيات المنطقة، وفي صلبها معطيات الواقع العراقي، ولكن تحسبا للانجرار خلف سقف التوقعات العالية، لا بد من عدم المبالغة في تقويم هذه الفرصة والبناء عليها، لأنها تبدو في تركيبتها وأجندتها المفترضة وطابعها الظرفي خطوة واحدة فقط في طريق تكثر مفترقاته. يبدو المؤتمر فرصة لبناء قدر من الثقة في بيئة يسودها الشك، ولأنه كذلك، فإن أطرافه ستدخل إليه بقدر عال من الشكوك المتبادلة، وهذه الشكوك ستؤدي لقدر من التحفظ ولانتظار مبادرة الآخر، المنتظر بدروه، وحيث أن اللاعب الأكبر، وهو في هذه الحالة الولايات المتحدة لا يذهب وفي جعبته مبادرة واضحة، لن يجد الآخرون حوافز كثيرة لمغادرة خنادقهم.

ولكن المؤتمر يظل في جميع الأحوال فرصة لتأطير الحراك الدبلوماسي الإقليمي، وحل عدد من العقد النفسية، وبشكل خاص عقدة اللقاء الامريكي الإيراني على طاولة واحدة مشروعها الأساسي هو التسوية، وعقدة اللقاء العراقي ـ العربي على طاولة واحدة مشروعها دعم الحلول البناءة للقضية العراقية. لقد ظل العراق منذ 2003 ساحة لصراع مفتوح بين ارادات إقليمية ودولية ومحلية أنتجت سفكا كارثيا للدماء، بعد أن أصبح التدمير والقتل وسائل لتسجيل نقاط سياسية ضد الخصوم، فغدا الإنسان العراقي مطحونا في عين اللحظة التي كان يطمح فيها إلى أن يستعيد كرامته المطحونة، بفعل إلغائه من المعادلة السياسية وتشيّئه المتراكم مع سنوات طويلة من الحكم الشمولي، ويمكن لهذا المؤتمر أن يسهم في معالجة قضية هذا الإنسان عبر النظر إلى هويته الإنسانية، بمعزل عن أي هوية مكتسبة أو مفروضة أخرى.

وإذا كانت قمة الرياض السعودية الإيرانية قد أدت إلى تفاهمات حقيقية وحجمت من عوامل عدم الثقة، وهي أمور ما زال علينا أن نختبرها على أرض الواقع، فإن المبادرة الإقليمية قد تتناغم مع مبادرات عراقية داخلية تسعى حكومة المالكي إلى اتخاذها، لبلورة مشروع حل يصبح معه الجميع راضين على ما حققوه من حدود دنيا في الأقل، ويغدو معه الصراع ضد الجماعات المتطرفة التي تفتك يوميا بالجسد العراقي، إرادة إقليمية مشتركة تضيق الفضاء أمام ما بدا تساهلا ضد جريان الدم العراقي.

حكومة المالكي تمضي قدما في خطتها الأمنية، التي وإن حققت بعض التقدم على بعض الساحات، فإنها تواجه تحديا صعبا مع إصرار جماعات العنف على البرهنة بأن عنفها سيظل حاضرا في الحياة المدنية العراقية، ومع ظهور تجاذبات سياسية داخلية حول اولويات الخطة، وتجاذب أمريكي ـ عراقي حول جدية أي من الطرفين في ضمان نجاحها. ولذلك تدرك هذه الحكومة ضرورة المزاوجة بين لغة القوة ولغة التسويات السياسية في ظل سيولة لا تسمح أبدا بهيمنة المواقف المتخندقة والحادة، وعليه تم تقديم إشارات إلى إمكانية الحلحلة فيما يخص قانون اجتثاث البعث، الذي بات يراه البعض من العرب كوسيلة لتهميش السنة، والعمل على دمج ضباط الجيش السابق في المؤسسة العسكرية الجديدة، بما يحمل مزيدا من الطمأنة حول التركيبة العقائدية والطائفية والاثنية لهذه المؤسسة، وبضمانات دستورية لعدالة توزيع الموارد ولتعديلات دستورية خلافية أخرى، وبسياسة تصالحية لا تقصي أو تستثني أحدا. ولكي تنضج هذه المبادرات وتتحول إلى مشاريع عمل حقيقية، لا بد وأن تلقى احتضانا إقليميا ودوليا يوظفها في إطار مشروع حقيقي للحل، ينهي جدلا عقيما حول الشرعية والحصص، لصالح جدل بناء حول سبل تشييد الدولة العراقية المدنية، التي تعمل كجسر يردم الفواصل الإقليمية، وهذا هو الدور الأساسي للمؤتمر.