عابر طريق

TT

تذكرة سفر، وحقيبة، ومطارات مشبعة بنكهة القدوم والرحيل.. مفردات عالمك المثير الذي يقودك إلى ذلك المقعد البارد في جوف صندوق طائر، لتأخذ حصتك من ابتسامة المضيفة المنهكة، وأنت تتناول وجبة باهتة فقدت انتماءها الجغرافي إلى أي من الجهات الست..

«سيداتي آنساتي سادتي.. نحن الآن على ارتفاع 33 ألف قدم».

ترسم وجهك على زجاج النافذة، تتأمل الأرض التي ضربت عمرك في مناكبها، فيركض شريط حياتك أمامك كطفل يسلم ساقيه للريح أول مرة..

كنت تجثو على ركبتيك طفلا أمام معلمك تردد في سذاجة:

«من جد وجد، ومن زرع حصد»..

لست على يقين اليوم من حكمة معلمك.. لكن ما بالك تحشر أنفك في حظوظ الآخرين؟!.. دع الخلق للخالق، واشدد إليك حزام مقعدك، فقائد الطائرة يعلن المرور ببعض المطبات الهوائية..

قرأت صبيا غثيان سارتر، فآثرت الابتعاد عن جحيم الناس، وجعلت من نفسك الموج والمركب والبحر والسارية، وكانت وحدها تختزل كل العالم، وكل وجوه النساء.. كانت المرأة الوحيدة التي وعدتها أنك ستسافر معها إلى الغد، وفعلت..

تقلبت بك الأحوال في أرجوحة الحياة: صعدت.. هبطت.. وعلقت من عرقوبك حينا.. وفي الصعود والهبوط كنت أنت.. تلك التقلبات تشعرك أنك حي لا تزال، بغط الطرف عن حجم نصيبك من الدنيا..

اليوم إذا نظرت خلفك شعرت بالانتصار.. إذا نظرت أمامك أحسست بالانكسار.. كثيرون قبلك.. كثيرون بعدك.. أنت مهزوم ومنتصر، وبين الهزيمة والانتصار مجرد التفاتة من الأمام إلى الخلف أو العكس..

اليوم جل الأشياء تقع خلفك: عمرك.. ذكرياتك.. أحلامك.. ركضك.. ولربما غدك أيضا..

قائد الطائرة يعلن إشارة الاستعداد للهبوط.. جارتي في المقعد تحدق في مرآتها الصغيرة، وقد أشعلت شفتيها بأحمر الشفاه، ورائحة عطرها تنثر الربيع في أرجاء هذا الزمن المعلق.. لعل حبيبا في انتظارها.. ربما..

تطوي شريط حياتك، وتحمل ما تبقى من العمر، وتتوه في الزحام.. أنت هنا مجرد عابر طريق، ولن يتنبه أحد لحضورك، فأطلق ذاتك تفتش عن طفولتها المسروقة في ركاب الغجر، وكن ما تريد.

[email protected]