أوروبا.. ظاهرة التحول في خطاب القيادات الإسلامية

TT

المتتبع لخطاب العديد من القيادات الإسلامية في أوربا فوجئ بتحول واضح على مدى السنة الأخيرة، وقفزة من موقف متطرف ومتشدد يحث على العداء، إلى موقف يؤكد على أقصى الولاء. وهذا ليس افتراء كما قد يدعي بعضهم. فمن حضر بعض المؤتمرات واللقاءات التي نظمت خلال الفترة الأخيرة لا يملك إلا أن يقف مندهشا غير مصدق لما يسمعه من قائد بعد آخر يؤكدون إيمانهم الأعمى الذي لا حدود له بالوسطية، وتبنيها كمنهج للعمل والدعوة والحياة والعلاقات مع الآخر، واستنكارهم وإدانتهم لمواقف التطرف والعنف التي يروج لها بعض الشباب وبعض الجماعات.

ولا يملك المرء إلا أن يهنئ هذه القيادات على هذا الخطاب الجديد، ويدعو لهم بالهداية والرشاد في أقوالهم وأفعالهم. فما يقولون به اليوم كلام جميل لا غبار عليه، بل إنه جاء متأخرا عشرات السنين. ويبدو أن هذا قدر أمتنا المتأخرة دائما في القول والعمل. وكلنا أمل أن يكون هذا التحول ظاهرة صحية جاءت نتيجة لقناعات تطورت واختمرت مع مرور الزمن. لكن الواضح أن هذه المجموعات قد استعارت هذا الخطاب وتبنته مؤخرا، وبالتأكيد بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر في أمريكا، وقطعا بعد الحادث الإرهابي في السابع من تموز الماضي في لندن، وما أعقبه من موقف حكومي متشدد وقوانين وقرارات قضائية أجبرت هؤلاء القادة (أو على الأقل أعدادا كبيرة منهم) على الالتفاف 180 درجة إلى الوراء، فغاب فجأة وتماما حديث التطرف والجهاد، والولاء والبراءة، ودار الحرب ودار السلام، ليحل محله حديث الوسطية والاعتدال، ودار الدعوة ودار الاستجابة، وأدب الاختلاف، والمواطنة والانتماء.

المدهش في الأمر أن معظم هؤلاء القادة كانوا يعتبرون التحاور والتواصل والتعاون مع أي جهة حكومية خيانة عظمى، ومصافحة النساء حراما، وحضور أي مناسبة رسمية يقدم فيها الكحول لغير المسلمين ذنبا لا يغتفر، والحديث عن المواطنة وواجباتها كفرا وجرما كبيرا بل خروجا عن الإسلام، فإذا هم يتراكضون اليوم لمصافحة النساء وحضور المناسبات ويعتبرون الحوار والتعاون مع أي جهة حكومية واجبا دينيا بل سنة مؤكدة، كما انطلقوا ينظّرون للمواطنة وواجباتها.

لو كان هذا الموقف تحولا طبيعيا في مواقفهم وأيديولوجياتهم وسياساتهم، فنحن نحمد الله ونشكره على هذه الظاهرة الصحية، ونأمل ألا يكون الأمر (ولو في بعض الحالات) موقفا انتهازيا فرضته إفرازات العمليات الإرهابية التي وقعت في الغرب، أو خوفا لدى هذه القيادات على مصالحها الحزبية والشخصية بعد أن وجد العديد من المتشددين طريقهم إما إلى النفي أو إلى السجن. فلا يمكن لعدد كبير من القادة والمنظرين والمفكرين أن يتحولوا جميعا في آن واحد وفي ليلة وضحاها، من موقف متطرف إلى آخر معتدل.

يمكن أن يحدث هذا لأفراد ومجاميع قليلة، أما أن يحدث لعدد كبير من قادة العمل الإسلامي في أوربا، فهذا أمر يحتاج إلى دراسة تحليليه سايكولوجية واجتماعية وسياسية وأخلاقية. وربما تبدأ هذه الدراسة بإعادة قراءة أدبيات وخطاب هذه القيادات ليس قبل عقود من الزمن بل سنين قلائل ليبين التناقض الصارخ بين خطابهم السابق وخطابهم الحالي. وليس هذا الأمر بالصعب إطلاقا حيث أن كتاباتهم ومحاضراتهم التي ألقيت في مؤتمرات عديدة متوفرة ويمكن الرجوع إليها بسهوله، ويزمع أحد الباحثين حاليا إعداد أطروحة للدكتوراه مقارنا فيها خطاب الأمس القريب بخطاب اليوم ومحللا أسبابه وبواعثه.

لكن هذا التحول المشكور والمحمود يترك إشكالية خطيرة جدا تحتاج إلى تكثيف الجهود لمعالجة تداعياتها، فالأعداد الكبيرة من الشباب ممن تأثروا بالخطاب العدائي السلبي السابق لم يعودوا يستمعون لخطاب قياداتهم الجديد، فقد تشكلت أفكارهم وآراؤهم وقناعاتهم بشكل راسخ بذلك الخطاب القديم، الذي ربتهم عليه هذه القيادات في الماضي. ويصعب الوصول إليهم حاليا والتأثير فيهم لأسباب عديدة: منها أنهم فوجئوا بقادتهم يتحولون ليس تدريجيا وطبيعيا بل في وقت قصير ويدورون استدارة كاملة، فصعب عليهم فهم الأمر واستيعابه والقبول به، لأنهم لم يجدوا له في الأدبيات والأفكار التي ربوا عليها أي تفسير أو مسوغ أو مستند شرعي. فهم يستخدمون للحكم على قادتهم الذين اكتشفوا الوسطية فجأة، نفس المقاييس التي تربوا عليها ، ونفس المنهجية الانتقائية في الإحالات الشرعية التي غرزت في عقولهم من قبل هذه القيادات ، فحكموا على قادتهم بالانهزامية والخنوع والنفاق والخيانة.

وكيف لا وقد استمع هؤلاء الشباب في الماضي إلى هؤلاء القادة وهم يتهمون كل من يروج لمواقف الاعتدال والوسطية والحوار والولاء لبلدان المهجر، بالخيانة والردة والعمل على خلق «إسلام أمريكي» أو «إسلام بريطاني». والإشكال أن هؤلاء الأتباع السابقين قد انفرطوا وتحولوا إلى مجاميع صغيرة بدون قيادة ولا ولاء لها إلا للتشدد، وتجتهد لنفسها وتلوي أعناق النصوص لتبرر مواقفها التي تخلق الكثير من المصاعب للجالية المسلمة.

لقد مارست هذه القيادات في الماضي القريب جدا عمليات التشكيك والاتهام والتهميش والإقصاء ضد العديد من المفكرين والعلماء والمعاهد والمؤسسات التي دعت منذ عقود من الزمن، ونظرت لمواقف الوسطية والاعتدال وإصلاح الفكر وتحرير العقل المسلم من أزمته وإلى التعايش والتعاون بين الشعوب والأديان في كافة المجالات فانهالت عليها الاتهامات وحوربت بشتى الوسائل.

والآن جاءت صحوة الضمير والفكر والعمل لدى هذه القيادات، ونأمل أن تكون صحوة صادقة وليست صحوة مفروضة، كما نأمل من هذه القيادات أن تعترف بالخطأ الكبير الذي ارتكبته خلال العقود الماضية والذي جر الكثير من المشاكل والصعوبات للجاليات المسلمة في الغرب، وعرقل تطورها ونموها وتطلعاتها.

فالاعتراف بالخطأ فضيلة، فهل من معترف ومعتذر.

* باحث وأكاديمي عراقي

مقيم ببريطانيا