انتصار اللبناني الجوعان

TT

تستوقفك تلك اليافطة المعلقة على واحدة من خيام المعارضة اللبنانية، المنصوبة وسط بيروت، وقد رسم عليها شخص يسأل آخر: «أنت مسلم أم مسيحي؟»، فيأتيه الجواب: «أنا جوعان!». تجول بعينيك في المكان، حيث الخيام شبه مقفرة في النهار، وقد تعب نزلاؤها الذين من المفترض أنهم هنا للضغط على حكومة فؤاد السنيورة وإجبارها على الاستقالة، فتشعر أن الجواب على اليافطة بمقدوره أن يكون أيضاً: «أنا ضجران» أو «قرفان» أو «هلكان». تمر مرة أخرى، في نفس المكان، ليل عطلة نهاية الأسبوع، فترى بعض الخيام عامرة بالساهرين مع نراجيلهم يرقصون الدبكة على وقع موسيقى صاخبة ويحتسون قهوتهم، ومثلهم يفعل طالبو السهر من غير المعتصمين (ولكن بنسخة إفرنجية) الذين يحيون لياليهم بالمئات على مبعدة خطوات في شارع مونو والجميزة، حيث الملاهي والمطاعم الليلية ما عادت تتسع للرواد، وعليك أن تحجز طاولتك سلفاً كي تنال الفوز العظيم. إنهم يسهرون ليلة الأحد، كل على طريقته، بعد أن استنذفهم الخوف والترقب والحذر، فلا المعارضة استطاعت أن تجيش مناصريها لأكثر من شهرين، وتحشرهم ليل نهار في ساحتي رياض الصلح والشهداء، ولا الموالاة عاد بمقدورها ان تبقي أنصارها على أعصابهم لتتمترس خلفهم، دون الدخول في حرب أو إعلان صلح. صارت خيام الاعتصام للترفيه الليلي الفلكلوري، أكثر مما هي مواقع للغضب، وجماعة الأكثرية ماعت حميتهم. يقال في العامية «شاطت الطبخة» أي احترقت، بعد أن انكشفت لعبة الأرقام والألوان، وصار الرقمان، 8 الذي تحمله المعارضة، كما 14 الذي تنضوي تحته الموالاة، موضع تندر من الصغار والكبار، كما باتت الألوان التي تبناها الطرفان كشعارت لهم، مجالاً للتنكيت والسخرية. فكيف للمواطن ان يبقى صلبا عنيدا خلف زعيم، يعترف بعظمة لسانه أن الحل يأتي من الخارج. البعض يتساءل إن كان قد صوّت، ذات يوم، لدمى تحركها خيوط سرية؟ ولمن سيصوت في انتخابات مقبلة، يتحدثون عن قانون جديد لها؟ وما قيمة القوانين مهما ارتقت، ما دامت تأتي بممثلين لجهات خارجية باقتراع لبناني؟

هذا لا يعني أن اللبنانيين نضجوا على حين غرة، ولم يعد الوضع تحت سيطرة الساسة وملك أيديهم. معاذ الله، فطلقتا رصاص، بمقدورهما أن ترجعا البلد إلى جحيمه، وبعض الضخ المذهبي الوضيع، يعيد إلى الراقصين والمنشرحين، سعارهم المعتق. لكن الهدنة السياسية ومدى احتفاء اللبنانيين بها، تكشف بمرارة كم ان المواطن متعطش لإنسانيته السليبة.

أوليس صحيحاً أن السياسيين أنفسهم صاروا يستهزئون بما يفعلون، بأصوات إذاعاتهم، وبرامج تلفزيوناتهم. فلكل محطة برنامجها السياسي الساخر، الذي لم يعد بمقدور أبطاله أن يستثنوا فريقاً أو زعيماً من لذعاتهم الحارقة، اللهم ربما إلا صاحب المحطة ودافع رواتبهم.

أدخل إلى المسرح الذي تريد هذه الأيام في بيروت، ستعثر دائماً على المسرحية التي تقول لك مباشرة أو مواربة، إن السيل قد بلغ الزبى. ثمة دائماً طريقة عند هؤلاء الفنانين الخبثاء، مهما ابتعد موضوعهم عن الواقع المعيش، ليبثوا إشعاعات التحريض على مخيلة جمهورهم. في إحدى المسرحيات يقول ممثل بعد حادث صدام تعرض له انه بات يرى كل الألوان تتداخل ببعضها البعض (كناية عن ألوان الأعلام الحزبية) فيرد عليه آخر: «هذا أوفر دوز أو لعلك دخلت في كوما ألوان». هذه الغيبوبة اللعينة تتحدث عنها مسرحية أخرى، تعرض حالياً في «مسرح المدينة» لتنبه إلى أن عمرها بلغ مئة سنة وأودت بعائلات بأكملها، لكن «كلن ماتوا عالفاضي». وبما إنهم ماتوا هدراً يوصي احد القتلى بأن تتربى ابنته بالسينما. وهذه الوصية المسرحية ربما يطبقها اللبنانيون اليوم بتلقائية وعفوية، بحيث باتت أعدادهم في المسارح والسينمات تتجاوز ما هو معتاد في أيام الخير والصفاء. هروب أم صحوة فنية متأخرة؟ في الحالتين، ثمة تمرد على البشاعة، وثأر من حياة الانعزال البيتي التي فرضتها سياسة طرفين متناحرين، يعترف كلاهما بأنه لا حل إلا بالحوار، إذاٍ فلمَ حرق الناس كالحطب في نيرانهم.

لعل أول من أشعل فتيل التحريض الفني على الموالاة والمعارضة معاً، هو غدي الرحباني في أغنيته البديعة التي تقول «الزعما فلو من لبنان وكبرت فينا فرحتنا، صار فينا نعيش بأمان وصارت جنه دنيتنا». وكتبت صحافية تعليقاً تقول فيه: «غدي يلغي غَدَهم». ولشدة تأثر المواطنين بالكلمات التي يؤديها الفرسان الأربعة، والفيديو كليب الناجح الذي يظهرون فيه مهللين لاختفاء الزعماء ورحيلهم، صار البعض يقول انه من «حزب الفرسان»، أي انه يتبرأ من كل الأحزاب، ويفضل التخلص من قادتها.

وأن كان الزعماء الأساسيين الذي طالتهم الأغنية مباشرة وبعبارت صريحة لا لبس فيها، قد تغاضوا وصمتوا، فإن سمير جعجع، قائد القوات اللبنانية، لم يخف انزعاجه في إحدى مقابلاته التلفزيونية، وتحدث مطولاً وبحرقة، عما أسماه عبثية الطرح الذي تقدمه الأغنية، معتبراً أن رحيل الزعماء لن يجلب الفرج للبنانيين وإنما الخراب، وعلى الفنانين أن يكونوا مسؤولين عن كلمتهم، إذ ماذا يفعل اللبنانيون بدون زعمائهم؟ أي كارثة ستلحق بهم؟! جواب استفهامي، يبدو انه لم يقنع جعجع نفسه، الذي اضطر في إحدى خطبه الأخيرة أمام جماهيره، وبينما كان يعيد الأسطوانة المشروخة نفسها التي تدور على ألسنة الساسة منذ أكثر من أربعة اشهر، من دون التوصل الى نتيجة، أن يستدرك ويقول: «أعرف أنكم تعبتم من هذا الكلام، وتريدون حلاً». والحقيقة أيضا إن مناصري 14 آذار أنفسهم لا سيما الشباب منهم، باتوا لا يخفون خيبة أمل بسبب أخطاء كثيرة ارتكبت، كان بالإمكان تلافيها بقليل من الحنكة. في ما يعرف أتباع 8 آذار أنهم في ورطة، وقد بلغوا جداراً يصعب اختراقه. وبالتالي، وأمام التجمعات المدنية، التي لا يمر أسبوع إلا وتعلن رفضها لما يحدث، مرة بسلاسل بشرية، ومرة أخرى بالرسم، وأخرى بالتجمهر والغناء، لا يعدم المواطنون وسيلة كي يعبروا عن سخطهم. وأمام التأفف الشعبي الذي كان بمقدوره أن يطيّر الزعماء فعلاً لا مجازاً، لولا رحمة الولاء الطائفي بهم، فإن نبيه بري وسعد الحريري، في اجتماعاتهما الثنائية المتتالية التي تبحث هذه الأيام، عن حل عصي بين الطرفين المتناحرين، يجدان نفسيهما محاصرين، ليس فقط من قمة عربية تنتظر اللبنانيين موحدين فيها وإنما أيضا من مناصرين سئموا الصراخ في التظاهرات والعطالة والبطالة، بقدر ما سئم العالم مشهدهم المكرور وتسولهم على عتبات المؤتمرات الدولية.

لذلك فإن كل محاولة تعطيل أو تخريب على ولادة حل ـ كالتي جازفت بها الموالاة في المجلس النيابي اللبناني منذ ايام ـ تعيد إلى الناس حياة طبيعية أو ما أشبه، ستلاقي انفضاضاً للجماهير الغفيرة التي ظن المتنطحون، لغاية اللحظة، انها السند الذي بمقدورهم الركون إليه بدون أن يعبأوا بجوعه أو صرخة ألمه.

[email protected]