وجعل لنا قلبه وأذنيه

TT

إذا عشق الكائن امرأة، آثر التفرد، وأورد لها الأسر وطول الستر، لا يريد لسواه المشاركة حتى في الاستراق، ولا رؤية لإشراق، فعشق الحب هو الشغف المطلق بالذات، والهوى هو حب الأنا من خلال نصر التفوق والتملك. أما إذا أحب المرء كتاباً فيريد للجميع أن يختلف إليه، وللجميع أن يتوافروا عليه، وللذات أن تخرج من ضيقها إلى المسترحب من الفكر والمتبرعم من الكلمات، والمسترق من اللطائف.

عندما يتسنى لي الكتاب كمثل «كتاب المودات» لسليم باسيلا، أتمنى لو كنت بائع كتب على ناصية أو في ناحية أو على زاوية، لكي أنادي عليه، ولكنت «استرجعته حين يتنفس الصبح، واستعدته حين يمتّع الفجر، واستوقعته في أذني حين طلوع الشمس، واستعذبته في ميعة النهار ودفئه». ولو كنت مستحقاً نزرا من الاستحقاق في لغة سليم باسيلا لما ترددت في أن أضم «كتاب المودات» إلى «لآلئ البغدادي في الامالي، إلى طرائف المبرد في الكامل، إلى براعات ابن عبد ربه في العقد، إلى إجادات أبي عثمان في البيان، إلى جزالة ابن قتيبة في العيون، إلى أطايب بن المعتز في الطبقات، إلى رقائق أبي الفرج في الأغاني، إلى قصار الابشيهي وطواله في المستطرف، إلى لطائف العباس بن الأحنف والبهاء زهير، إلى منمقات الشيخ إبراهيم (اليازجي) في الضياء، إلى منمنمات الأمير شكيب (أرسلان) في الحلل، إلى مصقولات البشري في المختار، إلى ريفيات أمين نخلة في المفكرة».

عندما يقرأ احدنا، الكتَّاب، نثرا فوق النثر، وشعرا متخفيا، مترسّلا يقف دون الجهر بنفسه وحقيقته، يغبط صاحب الكتاب ويغار عليه. وينشرح صدره انه ما يزال للغة حرس على مثل هذه الرفعة والدعة. ومثل من كان على مثل هذا الصفاء والثراء والعمق، يبقى بلا مقلدين أو مسترشدين، فلا سهل هو ولا ممتنع، بل نسيج يغري ويستحيل، يرق كالندى ولا يجمع كالأمطار. وثمة كتاب مقلون مقلون، كالتلال ترسل الخصب إلى الأودية وتكتفي بغزل ما تبقى في مواجهة الشمس.

يذوبك سليم باسيلا حنيناً ووجداً إلى زمن اللغة الأعلى، يوم الكد في مشاقها وجد، والغوص في أعماقها لؤلؤ، والخروج منها بالموسم، هو الإثابة الكبرى. ولكن ألا تغطي ورود اللغة أشواكه الفكر؟ طرح سليم باسيلا السؤال على جورج شحادة «فامسك عن الكلام، وغارت عيناه، وأوغل في نفسه، وقال في ما يشبه الهمس، ما هي المسافة بين الكلمة والفكرة».

كيف التقى الناثر سليم باسيلا، شاعر المسرح الفرنسي جورج شحادة؟ هكذا التقاه: «كان ذلك عصرية يوم من أيلول، ساعة استأذنا على جورج شحادة في داره، فتلقانا بقامة ذائبة كخيط، وهش لنا، ورفّ لنا، وتسمانا، فسمينا له، حتى إذا دعانا إلى مواضعنا حوله، وصرنا في مدار هالته، تحدث وتصرّف، وخرج من كلام إلى كلام، وتعطف من رأي إلى رأي، والمّ بأدب إلى أدب، ثم حبس صوته عنا، وجعل لنا قلبه وأذنيه».