حزمة دروس: من قيام إسرائيل وغزو العراق.. إلى استعادة طابا

TT

أربعون عاما مرت على احتلال إسرائيل لما كان قد تبقى من أرض فلسطين، وما زالت السياسة الإسرائيلية مصرة على إفشال كل محاولة لإعادة الحق إلى أصحابه، لبناء سلام وأمان لكل شعوب المنطقة على أساس احترام القانون الدولي، وقد بذلت مصر ـ بعد انتصارها في حرب أكتوبر المجيدة، التي أدت إلى تحرير أرضها كاملة غير منقوصة ـ جهودا وضعت أساسها في اتفاقية كامب ديفيد لكي تطبق مبدأ إعادة كل الأراضي المحتلة إلى أصحابها، وهو ما تجسد بعد ذلك في المبادرة العربية الجماعية، ولكن إسرائيل أفشلت كل تلك الجهود، واستمرت في عدوانها وفي خرقها كل ما تم من اتفاقات في هذا الشأن بحجج واهية، وبضراوة متزايدة في غالب الأحوال، بمساندة أمريكية كانت دائما متاحة لها، ولكنها لم تكن أبدا بمثل الانحياز المطلق، الذي تظهره الإدارة الحالية برئاسة بوش الابن.

وفي هذا الصدد لا أجد أفضل مما ذكره الكاتب الأمريكي نيكولاس كريستوف حين قال «إن الرؤساء ترومان وجونسون وريجان، كانوا الأقرب إلى إسرائيل، والرؤساء ايزنهاور وكارتر وبوش الأب كانوا أقل دفئا تجاهها، ولكنهم كانوا جميعا يراعون نوعا من التوازن، أما جورج بوش الابن، فإنه تخلى عن هذا التوازن».

وبين المواقف التي لا يمكن أن ننساها ـ علاوة على الفيتو الجاهز والضغوط المستمرة لصالح إسرائيل ـ التعهد الأمريكي المكتوب لشارون بالاعتراف بحق إسرائيل في ضم أجزاء من الأراضي المحتلة، وسكوت واشنطن الذي يعني الرضا على استمرار التوسع الاستيطاني، حتى ذلك الذي اعتبرته واشنطن نفسها غير قانوني، كأن هناك استيطانا على أرض مغتصبة من الغير، يمكن تحت أي ظرف أن يكون قانونيا. وقد رأينا كيف أن إسرائيل ـ مستقوية بهذه المواقف الأمريكية المخزية والمخالفة لكل المبادئ التي تنادي بها واشنطن ـ استطاعت أن تقضي على كل فرص السلام واحدة بعد الأخرى، وأخذت تصنف الرؤساء والزعماء الفلسطينيين ـ كما تحاول أن تصنف الدول العربية ـ إلى معتدلين ومتطرفين، وتحرض العالم عليهم، وتغتالهم سواء في عمليات عدوانية سافرة أو بمؤامرات مثل التي قضت بها على عرفات سواء بالسم أو بالحرمان من الحرية في مقر الرئاسة ذي الهواء الشحيح الفاسد، وقد زرته فيه أكثر من مرة وكنت في كل مرة اندهش لاستطاعته الحياة واستمرار إمساكه بزمام الأمور رغم سنه والأمراض التي ألمت به من جراء الأسر، وأخذت إسرائيل بعد استشهاد عرفات، تجد حججا جديدة لكي تفشل جهود أبو مازن، الذي كانت تقول إنه المحاور الذي تستطيع التعامل معه، وبذلك ساهمت ـ ضمن أسباب أخرى معروفة ـ في فوز حماس في الانتخابات، واستطاعت أن تجر وراءها الغربيين وتورطهم في حصار ظالم للشعب الفلسطيني أدى ـ بالإضافة إلى المعاناة التي نعرفها ـ إلى الاحتقان الذي شهدناه وكاد يلقي بالشعب الفلسطيني في أتون حرب أهلية تسيل فيها دماء زكية بين الجانبين. وعندما أدرك الفلسطينيون خطورة ما يُجرون إليه واستجابوا إلى صوت العقل والى الجهود العربية ـ مصرية وسعودية وغيرها ـ وتوصلوا إلى صيغة بنوا عليها حكومة وحدة وطنية تطالب بإقامة دولة فلسطينية على أراضي 1967 وتحترم الاتفاقيات المعقودة، وتلتزم الهدنة طالما التزمتها إسرائيل، فإن إسرائيل بدلا من أن تنتهز الفرصة المتاحة للبدء في إقامة السلام العادل والآمن، أخذت تحرض العالم على الاستمرار في المقاطعة الغبية للحكومة الفلسطينية الجديدة، وتصر على الشروط المسبقة الظالمة التي لم يسبق لها مثيل ولا تتفق مع أية قواعد شرعية أو قانونية.

وقد سبق أن فندنا تلك الشروط، وأضيف اليوم إشارة إلى ما يدعونه من أن الحكومة ذكرت إنها ستحترم الاتفاقات، ولم تقل إنها تعترف بها، إن هذه سفسطة لا أتصور أن يوافق عليها أصحاب المنطق القانوني السليم، فالاتفاقات لا تحتاج إلى اعتراف بل إلى احترام وتطبيق، ويكون هذا من جانب جميع الأطراف وليس طرفا واحدا. وفي هذا الشأن فإن سجل إسرائيل السلبي حافل. كما إننا لم نسمع أحدا يطالب إسرائيل بالاعتراف بدولة فلسطينية على الأراضي التي احتلت في 1967. وإذا كانت بعض الصحف الأمريكية قد أشارت الى بعض المسافة التي ظهرت بين المواقف الإسرائيلية والأمريكية والأوروبية من الحكومة الجديدة، فما زال الانحياز الأمريكي لإسرائيل واضحا، وهنا أود أن أنقل من مقال كريستوف الذي أشرت إليه ما يلي: «إن مناقشات حادة تجري داخل إسرائيل حول استخدام القوة واحتلال الأراضي الفلسطينية، ولكن لا يوجد مرشح أمريكي للرئاسة مستعد لأن يوجه للمواقف الإسرائيلية المتشددة نصف مثل النقد الذي نراه مثلا في جريدة هآرتز الإسرائيلية»، ويضيف «منذ ثلاث سنوات تحدث وزير العدل الإسرائيلي علنا عن صورة عجوز فلسطينية، تقف إلى جانب أطلال منزلها الذي هدمته القوات الإسرائيلية، وقال الوزير الإسرائيلي إن ذلك ذكره بجدته التي كان النازي قد استولى على ممتلكاتها»، وتساءل الكاتب «هل يمكن تصور أن يدلي وزير أمريكي بمثل هذا التصريح؟ السبب أن الساسة الأمريكيين تعلموا أن يسدوا أفواههم، وهم يتذكرون كيف أنه عندما طالب هوارد دين في 2004 حين كان يتطلع إلى أن يرشحه الديمقراطيون للرئاسة أنه يحبذ دورا أمريكيا أكثر إنصافا، اتهم بمعاداة إسرائيل، كما هوجم باراك أوباما المتطلع حاليا لترشيح الديمقراطيين له، لأنه قال إن أحدا لا يعاني أكثر مما يعاني الفلسطينيون، بينما اجتهدت هيلاري كلينتون حتى لا يبدو هناك أي فرق ولو ضئيل بين موقفها وموقف أولمرت». والمقال طويل وهو لا يكشف عن أمور لم نكن نعرفها، ولكنه له وزنه كشهادة لشاهد من أهلها، وهناك بعض المنصفين من الأمريكيين ولكن أصواتهم ـ حتى إذا ارتفعت أحيانا بالحق ـ فإن ضجيج المؤيدين لإسرائيل بغير حساب ـ سرعان ما يكتمها، ومن ذلك مقال كتبه الكاتب «جرينواي» حول العراق وذكر فيه: أنه عندما يتحدث الرئيس ومؤيدو إرسال قوات إضافية، عن إعادة الأمن والنظام، فإنهم يقللون من أهمية حقيقة أن مجرد وجود الجنود الأمريكيين يولد المقاومة، ويخلق أجواء الفوضى التي ينتهزها المجرمون، كما تظهر المليشيات التي تبدو حينئذ في نظر الجماهير في صورة المنقذ الوحيد، وقد يحاول الجنود الأمريكيون أن يباشروا مهامهم بإنسانية ولكن طبيعة تلك المهمة قمعية وعنيفة وغير منتجة»، وأشار الكاتب إلى سوابق الثورة الأمريكية ضد الاحتلال البريطاني في نهاية القرن الثامن عشر وحرب الاستقلال.

أربعون عاما إذن مضت على الاحتلال الإسرائيلي، وأربعة أعوام مرت على الاحتلال الأمريكي للعراق، ودروس التاريخ واضحة لا يريد أن يلتفت إليها من يدفعون أنفسهم والعالم إلى مزالق خطيرة، كما إنهم لا يريدون أن يستمعوا إلى أصوات الحق والمنطق، مثل الأصوات التي ذكرتها وصوت بريجنسكي مستشار الأمن القومي خلال رئاسة الرئيس كارتر الذي أصدر كتابا ضد حرب العراق باسم «الفرصة الثانية» لم تتح لي بعد فرصة قراءته، ولكني قرأت عنه. وبينما تستمر تلك السياسات الضارة بأصحابها بنفس القدر الذي تضر فيه بمن توجه إليهم، يستمر سيل السفسطة التي تصدر عن المتحدثين باسم واشنطن نيابة فيما يبدو عن إسرائيل، فنسمع تعليقا يقول أن «الاعتراف المطلوب من الفلسطينيين هو الاعتراف»، مذكرا بأقوال أخرى مبهمة موجهة إلى أطراف أخرى مفادها أنهم يعرفون ما عليهم أن يفعلوه»، والسؤال هو ألا تعرف إسرائيل معنى الاعتراف، وما عليها أن تفعله لكي يكون هناك اعتراف متبادل بين دولتي فلسطين وإسرائيل، ولماذا تفسر واشنطن ادعاءات إسرائيل بأنها تريد تطبيق خريطة الطريق وإقامة دولتين، بينما هي تسكت عن خرق إسرائيل اليومي لكل بند من بنود الخريطة التي اتضح بذلك انها لا تؤدي إلا إلى أرض التيه، وعن تصرفات إسرائيل التي تجعل من الدولة الفلسطينية الموعودة، مجرد سراب في الأفق، يبتعد كلما تصور البعض أنه اقترب من الوصول إليه.

أربعون عاما على هذا الحال، وهذا موقف الولايات المتحدة، فكيف نتصور أنها بعد أربعة أعوام من غزو العراق قادرة على أن تنحو منحى غير الذي اختارته والذي أوصل الأمور إلى وضع كشف استطلاع رأي أجرته الإذاعة البريطانية عن مدى نظرة العراقيين في غالبيتهم إليه، محطمين الزعم بأن غزو بلادهم كان لإسعادهم وبناء الديمقراطية والرفاهية لهم، فقد ذكر فقط ما لا يزيد على 18% إنهم يثقون بقوات أمريكا والتحالف، بينما انقسم الناس بين من يثقون بالحكومة العراقية ومن لا يثقون، وأبدى 86% خشيتهم من أن يكونوا أو أقاربهم ضحايا للعنف، وقد أوضح الاستطلاع بالمقارنة بمثيل له أجري 2005 أن العراقيين أصبحوا أكثر تشاؤما، وأوضح استطلاع آخر أن أعمال الإرهاب في العالم زادت ستة أضعاف، عما كانت قبل غزو العراق.

وكما يرى القارئ، فليس لي فضل كبير في كتابة هذا المقال، الذي استقيت اغلب ما فيه من مصادر علنية غربية حتى لا يتصور البعض أني أعبر ـ فقط عن مشاعري الخاصة أو مشاعر عربية. ويبقى أن نتساءل عن كيفية تعظيم الفائدة التي يمكن أن نجنيها من دعم الأصوات العاقلة التي ما زالت تعلو في الولايات المتحدة وإسرائيل. ويتوقف ذلك على قدرتنا على أن نوحد صفوفنا سواء على المستوى العربي العام ـ في مؤتمر القمة القادم مثلا ـ أو على المستوى الفلسطيني والعراقي واللبناني الداخلي ـ لكي نعكس مواقف عملية وحازمة ومتعقلة تشكل سدا منيعا ضد محاولات الإضرار بنا، وتشكل كذلك أدوات لتحقيق آمالنا في مستقبل أفضل لهذه الأمة في أمان من مؤامرات المتآمرين ضدنا، ومن السفهاء في صفوفنا الذين يجرون وراء سراب هو فخاخ ينصبها لنا من لا يريدون الخير لنا، مستغلين جوانب النقص فينا.

وقد أثبتت السوابق القدرة العربية على الإنجاز، سواء في الحرب كما في 1973 أو في السجال السياسي كما في مفاوضات معاهدة السلام مع إسرائيل، أو في المجال القانوني الذي استعدنا من خلاله آخر قطعة أرض حاول الإسرائيليون اغتصابها بالغش والخداع، وهي طابا التي عادت إلى الوطن الأم بعد معركة باسلة، ونحتفل هذه الأيام بالذكرى الثامنة عشرة لرفع العلم المصري خفاقا عليها.