لكي لا تنهار الشراكة السياسية الفلسطينية

TT

دشن الفلسطينيون عبر اتفاق مكة، مرحلة جديدة في تاريخ عملهم السياسي، يقوم على الشراكة بين حركتي فتح وحماس. أولا من خلال حكومة الوحدة الوطنية التي أنجزت، وثانيا من خلال إعادة تكوين منظمة التحرير الفلسطينية، وهي مهمة لا تزال قيد الإنجاز. وستكون هذه المرحلة حين تنجز بالكامل معلما من معالم مسيرة الحركة الوطنية الفلسطينية، ترقى إلى مستوى التكوين الثاني لمنظمة التحرير الذي تبلور عام 1968، حين تولت فتح والفصائل الفدائية مسؤولية قيادة منظمة التحرير.

تلقي هذه المرحلة على عاتق بناتها مسؤولية كبيرة تتلخص في ضرورة إنجاح التجربة. تتحمل عبأها الرئاسة الفلسطينية وقيادة حركة حماس، حيث المطلوب من كل منهما إدراك منطق الشراكة هذا والعمل حسب مقتضياته، والخروج من دائرة اعتباره ظرفا سياسيا طارئا، يمكن له أن يتبدل أو أن يتغير في انتخابات فلسطينية قادمة، ثم تعود الأمور إلى ما كانت عليه في السابق. يمكن نظريا تصور انتخابات فلسطينية قادمة تفوز فيها حركة فتح بالأغلبية، ولكن هذا لا يلغي منطق الشراكة، بل يغير الأدوار فحسب. أما من يتطلع إلى إلغاء الشراكة فإنه يغفل إدراك التغيرات التي طرأت على الشارع الفلسطيني وعلى تكوينه السياسي، ويقود المجتمع إلى حالة من التناحر الذي يقود مجددا إلى الاقتتال.

إن ولادة هذه الشراكة لم تكن سهلة، فقد أمضت حركة فتح عاما كاملا، من دون أن تستطيع استيعاب نتائج الانتخابات التي انتزعت منها السيطرة الكاملة على المؤسسات الفلسطينية الأساسية (المجلس التشريعي ـ الحكومة)، وتصرفت على أساس أن ما حدث هو نتيجة أخطاء ارتكبتها الحركة، ويمكن إصلاح هذه الأخطاء والعودة إلى مسار الوضع السابق. وأدى هذا الفهم الخاطئ للأمور إلى ارتكاب مزيد من الأخطاء، فرفضت عرض المشاركة في حكومة اسماعيل هنية الأولى تحت شعار أنها ستكون في المعارضة، وساهمت من خلال ميزات منصب رئاسة السلطة في الحصار المالي والسياسي المضروب على الحكومة الفلسطينية، ودخلت في تنافس حاد على أجهزة السلطة الأمنية، وخاضت معركة سياسية شرسة لفرض منطق حركة فتح على منطق حركة حماس، ثم أدى ذلك كله إلى الاقتتال الدموي. وهنا شكل اتفاق مكة أداة الخروج من هذا المأزق، على قاعدة الإقرار بالشراكة السياسية. فهل ستستطيع الحركتان استيعاب هذه الحالة ومواصلة العمل بمقتضاها؟

من التصريحات اللافتة للنظر، والتي تعبر عن الحالة النفسية لكوادر حركة فتح، التصريح الذي أدلى به عزام الأحمد رئيس كتلة فتح البرلمانية، وقال فيه «لم أكن أتصور في حياتي، أنني سأصبح نائبا لرئيس الوزراء في حكومة تترأسها حكومة حماس». وحين يستطيع كادر من هذا المستوى أن يتفهم ما لم يكن قادرا على تصوره من قبل، فإن تجربة الشراكة السياسية ستنجح. وحين يتصور اسماعيل هنية مثلا، احتمال أن يصبح نائبا لرئيس الوزراء في حكومة تترأسها حركة فتح، فإن تجربة الشراكة السياسية ستنجح.

ثمة في الواقع الفلسطيني الراهن، تصرفات وقرارات تسير في اتجاه مختلف، وتشير إلى أن العقلية المسيرة لبعض الأمور لا تزال مشدودة إلى منطق المرحلة الماضية، وإذ نشير إليها هنا إنما لنحذر من نتائجها السلبية.

أولا: بروز المنطق الدولي السلبي الذي يقول بأن هذه الدولة أو تلك، ستتعامل مع هذا الوزير وترفض التعامل مع ذلك الوزير. إن قرارات الدول شأن يخصها، ولكن الرد الفلسطيني على هذا الموقف هو ما يهم هنا. فإذا قبلت الرئاسة الفلسطينية هذا المنطق وانصاعت له، وإذا بدأ الوزراء يتصرفون حسب قاعدة أن هذا الوزير مقبول وأن ذلك الوزير مرفوض، تكون القوى الدولية قد نجحت في إحداث شرخ أساسي داخل تجربة الشراكة السياسية هذه. أما إذا تصرف الجميع حسب قاعدة أن الحكومة هي حكومة الجميع، وهي حكومة الوحدة الوطنية، وهي حكومة التوافق السياسي الذي تم في مكة، وانتقدوا مواقف تلك الدول من أجل تغييرها، فإن الرد سيشكل عنصرا فاعلا في إنجاح التجربة الجديدة. وهنا يتحمل الرئيس محمود عباس مسؤولية كبيرة، فهو الرمز الذي تخاطبه الدول، وهو الرمز الذي يخاطب الدول. وحكومة الوحدة الوطنية والشراكة السياسية هي حكومته، ومن واجبه أن يدافع عنها وأن يحميها من الضغوط ومن التدخلات الأجنبية، دفاعا عن القرار الفلسطيني واحتراما له.

لقد رفض رئيس الوزراء الإسرائيلي أن يلتقي مع مساعد وزير الخارجية النرويجي الذي التقى مع اسماعيل هنية، فهل تقبل الرئاسة الفلسطينية أن تتخذ موقفا مماثلا من مسؤول يوافق على أن يلتقي مع هذا الوزير الفلسطيني وأن لا يلتقي مع ذاك؟.

ثانيا: إعلان مواقف وقرارات سياسية لا تراعي منطق الشراكة القائم، وأبرزها قرار تعيين محمد دحلان مستشارا أمنيا للرئيس، ورئيسا «فعليا» بالتالي لمجلس الأمن القومي الذي تقرر إنشاؤه من جديد. لا أحد يجادل بالطبع في أحقية الرئيس في اختيار مستشاريه، ولا أحد يعترض على هذا الشخص أو ذاك من كوادر حركة فتح. ولكن مسؤولية الرئيس تفرض عليه أن تكون اختياراته ملبية لحاجات الشراكة السياسية، ومطمئنة للقوى التي تتشكل منها هذه الشراكة السياسية. ومن المعلن أن حركة حماس لا ترتاح إلى التعامل مع دحلان، وهي تنسب إليه أدوارا لا تسهل عليه إنجاز مهمته. وسواء كان ذلك صحيحا أم لا، فقد كان من الممكن اختيار أشخاص لا يكونون موضع ملاحظات من هذا الطرف أو ذاك. تماما كما كان الحال عليه في اختيار وزير الداخلية، فقد كان جوهر الأخذ والرد بشأنه، هو أن يكون اختيار الشخص مرضيا لجميع الأطراف.

وهناك جانب آخر يتعلق بحركة فتح، التي تعيش منذ زمن حالة صراع داخلي بين عدد من الكتل، ومن المهام الأساسية للرئيس محمود عباس، أن يساعد في توحيد هذه الكتل، حفاظا على وحدة حركة فتح، لأن انحيازات الرئاسة نحو دعم كتلة ما، يعني ضمنيا الدخول في صراع مع الكتل الأخرى، وهو آخر ما تحتاجه حركة فتح في هذه المرحلة. ولا نقول هذا تدخلا في شؤون حركة فتح، بل لأن حركة فتح، وبموقعها النضالي والتاريخي، هي شأن فلسطيني عام، يخص الجميع، ولا يخص أعضاء حركة فتح فقط. ووحدة فتح أو تشرذمها أمر ينعكس إيجابا وسلبا على المسيرة الوطنية الفلسطينية.

ثالثا: غياب الفعالية في التوجه نحو البند الذي يكمل الشراكة السياسية، والمتعلق بتفعيل وإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية. يسلم الجميع بضرورة إنجاز هذه المهمة، ولكن درجة الاهتمام تبدو متدنية، وهي تكاد تقتصر على إعلان النية عن إرسال مبعوث إلى دمشق ليلتقي مع الفصائل الفدائية المتواجدة هناك. ولكن إحياء منظمة التحرير هو أمر أكبر من ذلك، فهناك تحرك شعبي فلسطيني يتطلع إلى ضرورة إحداث تغيير في بنية منظمة التحرير، ينقلها من مرحلة تمثيل الفصائل الفدائية، حسب قاعدة (الكوتا)، ومن مرحلة تعيين الأعضاء، إلى مرحلة الانتخاب وتمثيل القوى الاجتماعية. وهذه مسألة نوعية تحتاج إلى رؤية عميقة ومستقبلية، لا يبدو حتى الآن أن الأطراف الأساسية تنظر إليها بالجدية المطلوبة. لقد ورد مثلا في البيان الأخير للجنة التنفيذية للمنظمة، دعوة لـ«تحسين أداء منظمة التحرير الفلسطينية». ومجرد «تحسين الأداء» مهمة لا ترقى أبدا إلى مستوى الطموح الذي تتطلع إليه العديد من القوى الفلسطينية الفاعلة، وهي مهمة بعيدة كل البعد عن إدراك طبيعة النقاش الذي تشهده أوساط القوى الاجتماعية الفلسطينية، والتي تتطلع نحو الانتخابات كوسيلة أساسية لإعادة بناء المنظمة.

إن التصدي لهذه المهمات الثلاث، من شأنه أن يعمق مفهوم الشراكة السياسية الذي أنجزه اتفاق مكة. أما الابتعاد عنه فهو ابتعاد عن روح ومضمون هذا الاتفاق، وربما يؤدي إلى المساس به، عن قصد أو من دون قصد.