حقهم الاحتفال

TT

سجلت أوروبا مرور نصف قرن على وحدتها، التي أصبحت تضم 27 دولة، بينها رومانيا، التي أثقل على صدرها نيكولاي تشاوشسكو، ودكتورته في الكيمياء، ايلينا. وفيما كان مهووسون مثل تشاوشسكو يقيمون حياة الأقبية، كان تاريخيون مثل شارل ديغول وكونراد اديناور وفيلي برانت ومارغريت ثاتشر وجورج بومبيدو وهلموت كول، ينشئون أهم وحدة في العصر. وقد وحّد غاريبالدي إيطاليا بالقوة، ووحّد بسمارك ألمانيا بالسلاح، وتوحدت أوروبا الحديثة عندما رمت الحروب والقتال في «مزبلة التاريخ»، وراحت تبني وتنمو، بحيث عادت لندن، لا نيويورك، أهم مدينة اقتصادية في العالم، وتخطى دخل الفرد في ايرلندا دخل الفرنسي، بعدما كانت بلد المجاعة والهجرة والفقر.

إسبانيا، البرتغال، ايرلندا، وحتى اليونان، تحولت ضمن الوحدة إلى بلدان مزدهرة، ونفضت عن ملامحها تلك الصفرة، وذلك الشحوب الذي استمر مع سنوات الديكتاتورية والتخلف والأنظمة العسكرية. ويعيش الآن الروماني والمجري والألماني الشرقي ضمن أسرة من 300 مليون إنسان، بينهم الفنلندي الذي يتقدم أميركا في صناعة الهواتف النقالة.

هناك حكام في العالم العربي يتحدثون عن الوحدة منذ أربعين عاما ولم ينشئوا مدرسة للعلوم أو مصنعاً للفولاذ. وهناك دول تتحدث عن الوحدة العربية وتمنع الناس من ادخال أو إخراج العملة. وهناك أنظمة تذكرت بعد أربعة عقود أنه يستحسن توزيع الثروة، فأعلنت توزيعها على نفسها. وهناك دول لا تقبل ما هو أقل من الوحدة المطلقة ولا تكف عن زعزعة الوحدة الوطنية في كل مكان. والوحدة الوحيدة التي تحققت وانتصرت وازدهرت هي وحدة الهجرة والتشرد والفقر والبطالة.

أمضت أوروبا نصف قرن تثبت لنا أن اللغة لا تكفي والثقافات لا تكفي والحدود لا تعني شيئاً. فهناك أولاً المصلحة. وهناك ثانياً الحرية. وهناك ثالثاً القانون. وتحت هذه المظلة المثلثة أمكن للألماني والفرنسي والهولندي والتشيكي والروماني، أن يتعاملوا بلغة واحدة وحرية واحدة وعملة واحدة وجواز سفر واحد، لا يبرز إلا عند الحاجة، وخارج إطار المتحَّد.

قبل أن تدخل أوروبا وحدة الحرية والعدالة والقانون، حاول هتلر جرها إلى الموت والجنون وانتهى منتحراً. وكان ذلك زمن رجال مثل موسوليني والجنرالات الجبناء مثل بيتان، الذي حاول إقناع الفرنسيين بأن العبودية أكثر سلامة من الاعتراض على الفاشية والنازية. وبعد دمار الحرب تعلمت أوروبا الأمثولة الكبرى وخرجت إلى عملية البناء. وتنازل الألمان عن فوقيتهم والفرنسيون عن عنجهيتهم والبريطانيون عن استعلائهم. وأقاموا معاً دولة واحدة فيها عاصمة تدعى لندن وعاصمة تدعى باريس وعاصمة تدعى فيينا وفيها دوقية اللوكمسبورغ، وفيها بلد يدعى إسبانيا كان تحت فرانكو أفقر بلدان الأرض، وأصبح في غنى العالم العربي، مجتمعا.