قمة الرياض: خطوة هامة عريضة على طريق الألف ميل

TT

«عنزة ولو طارت».. إن هذا المثل اللبناني ينطبق على بعض الكتَّاب والسياسيين وقادة الأحزاب، الذين يشبهون العمالة الآسيوية الرخيصة، فهؤلاء تستبد بهم عقلية المؤامرة إلى حد أنهم لا يتورعون حتى عن اعتبار كسوف الشمس أو انحباس المطر مؤامرة أميركية ضد " «إيران الثورة» وضد كل الذين يدورون حول هذا الفلك الذي يطل على الوطن العربي من الشرق من «قادة نجباء» ومن منظمات وتنظيمات لم تعرف من النضال والجهاد سوى أن قادتها، الذين أغلبهم قادة بلا قواعد، أطلقوا ذقونهم على طريقة «الهيبيين» ومشردي الشوارع في الدول الأوروبية.

أحد هؤلاء، وهو كاتب لا يغيب حتى عن جرائد الحائط في المدارس الابتدائية، لم ير من كل هذه «الدْربكة» في الشرق الأوسط، حتى بما في ذلك قمة الرياض العربية التي مع صباح هذا اليوم الخميس تبدأ يومها الثاني بكل جدِّية ونجاح، سوى أنها تغطية مسبقة لضربة أميركية قيد التجهيز والإعداد ضد جمهورية إيران الإسلامية.

لم يرَ أصحاب هذه التحليلات الحولاء والعمشاء كيف ان المملكة العربية السعودية وهي منهمكة في الإعداد لهذه القمة، التي نقلت العرب من حالة التشرذم والارتباك وذهاب الريح إلى وضع أقدامهم على بداية طريق العودة للتضامن والتفاهم، قد بادرت إلى الانفتاح على إيران والسعي لمساعدتها في الخروج من الملف النووي سالمة وفي تخفيف الموجة المضادة لها التي أعقبت تفاقم المواجهة المذهبية بين السنة والشيعة في العراق.

إذن لماذا هذه القمة ولماذا بادرت السعودية بالتنسيق والتشاور مع عدد من الدول العربية، التي تقف معها وعلى الأرضية نفسها الى الإمساك بأزمة الأمور والقيام بهذا الهجوم الدبلوماسي الناجح الذي لا ينكر أهدافه الحقيقية إلا فرسان الشعارات الثورية والذين اعتادوا «التغميس» خارج الصحن واعتبار كل ما يقوم به عرب الاعتدال والواقعية مؤامرة لحساب الاستكبار العالمي والإمبريالية الأميركية..؟!

أولاً: لقد أصبح الأمن القومي العربي، في ضوء ما يجري في العراق وفي فلسطين وفي لبنان والسودان والصومال وأيضاً في اليمن، مخترقاً بصورة غير مسبوقة وذلك إلى حد حتى أن الدول البعيدة التي تقع خارج هذا الإطار باتت مهددة باستقرارها وتماسكها وبمصالحها الحيوية.

ثانياً، لقد أصبحت الهوية العربية في بعض هذه الدول مهددة بالزوال فقد بدأت «الشعوبية» الجديدة تقيم لها نقاط ارتكاز من «صعدة» في اليمن وحتى حارة حريك والشياح وضاحية بيروت الجنوبية مروراً بمدينة الصدر، مدينة الثورة سابقاً، في بغداد وبغزة هاشم وفي مناطق كثيرة من دول عربية أخرى إن في المشرق الملتهب وإن في المغرب الذي بدأت فيه الفتنة العمياء بالجزائر وضربت حتى في المملكة المغربية وتونس.

ثالثاً، بات لبنان بعد كل ما جرى ويجري، بعد اغتيال رفيق الحريري والاغتيالات السابقة واللاحقة، يقترب بخطوات سريعة من العودة إلى الحرب الأهلية البغيضة وبات العراق يكتوي بنيران حرب طائفية ومذهبية مدمِّرة وأصبحت غزة قبل اتفاق مكة المكرمة مسرحاً لمواجهات داخلية هي الحرب الأهلية بعينها وذلك في حين ان مثل هذا كله وأكثر منه يحدث في دارفور في السودان وفي الصومال وأيضاً.. أيضاً في اليمن.

لقد ابتعدت القضية الفلسطينية، التي هي قضية العرب الأولى، بعد جريمة الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 وبعد احتلال أفغانستان والعراق، عن دائرة الاهتمام العالمي كثيراً وقد رفعت إسرائيل، منذ بداية عهد رئيس وزرائها السابق آرييل شارون، شعار: «عدم وجود الطرف الفلسطيني الذي من الممكن أن يكون مفاوضاً» وللأسف فإنها حققت نجاحاً كبيراً على هذا الصعيد بسبب التمزقات التي أصابت بنية الفلسطينيين الداخلية ونتيجة التحاق بعض فصائل العمل الوطني الفلسطيني بالمعادلة الإقليمية المعروفة.

لقد تجاوز الوضع العربي برمته كل الخطوط الحمراء ولذلك فقد كان لا بد من هذا التحرك السريع والجاد وكان لا بد من قمة عربية تكون بمثابة وقفة مسؤولة عند المنعطف الخطر وكان لا بد من أن تنعقد هذه القمة في الرياض، فالمملكة العربية السعودية، رضي من رضي وغضب من غضب، هي إحدى أثافي الوضع العربي القليلة وهي القادرة على المبادرة والنجاح في هذه المبادرة والدليل على ذلك أنها نجحت في إبرام اتفاق مكة المكرمة في لحظة كان فيها الفلسطينيون يغرقون في مأساة حقيقية.

كان لا بد من إعادة الاهتمام العالمي الى القضية الفلسطينية، التي كادت أن تصبح قضية منسية حتى على الصعيد العربي، وكان لا بد من إقناع الأميركيين بأن هذه القضية هي جوهر الصراع في المنطقة فكانت مخاطبة الملك عبد الله الثاني بن الحسين للكونغرس الأميركي التي كانت مخاطبة عربية وليس مجرد مخاطبة أردنية، والتي جاءت في سياق هذا التحرك العربي عشية انعقاد قمة الرياض، وسبقتها مشاورات بين عمان والرياض والقاهرة وأبو ظبي وعواصم عربية أخرى.

وهنا وخلافاً لما قاله ويقوله حزب «عنزة ولو طارت» فإن مجيء وزيرة الخارجية الأميركية كونداليزا رايس إلى هذه المنطقة واجتماعها مع وزراء خارجية الرباعية العربية، السعودية ومصر والأردن والإمارات، يدل على أن الرسالة التي أبلغها العاهل الأردني إلى مكان صنع القرار في الولايات المتحدة قد وصلت وأن العرب الذين بذلوا جهوداً مميزة لإنعاش مبادرة السلام العربية قد نجحوا في جهودهم هذه التي مهدت لهذه القمة وأن الأميركيين بسبب هذه الجهود اقتنعوا بضرورة العودة للقضية الفلسطينية لأنها هي الأساس ولأنه بدون حلها لا يمكن القضاء على الظاهرة الإرهابية ولا يمكن وضع حدٍّ لا لما يجري في العراق ولا لما يجري في لبنان وفي غير لبنان.

إن الذين لا يعرفون من التعامل مع الغير، دولاً وأفراداً وجماعات ومجموعات، سوى الانصياع لكل ما يُملى عليهم لم يروا في زيارة وزيرة الخارجية الأميركية إلى هذه المنطقة، عشية هذه القمة العربية، سوى ما ينطبق عليهم هم أنفسهم، ولذلك فإنهم قد بادروا لعزف ألحان التشكيك إياها، ولذلك فإنهم قابلوا كل هذه اليقظة العربية في اللحظة المناسبة الحاسمة «بالتغميس خارج الصحن» واعتبار أن كل هذا هو مجرد تغطية مسبقة لعمل عسكري أميركي، يجري الإعداد له، ضد إيران.

كان لا بد من أن تأتي وزيرة الخارجية الأميركية الى هذه المنطقة في هذا الوقت بالذات فالعرب استعادوا زمام المبادرة والمطروح هو مبادرة السلام العربية وإعادة الاهتمام العالمي إلى القضية الفلسطينية والولايات المتحدة هي وحدها القادرة على إلزام الإسرائيليين بالتخلي عن الحلول الأحادية. ثم ان مجيء كونداليزا رايس هذا يدل على اقتناع الأميركيين بأن فلسطين هي مربط الفرس، وأنها هي أم الحلول والتسويات، وهذا لا علاقة له بالتآمر والمؤامرات، وبما ينعق به غربان الشؤم والتحدث عن تغطية مسبقة توطئة لحرب ستشنها أميركا على الجمهورية الإسلامية.

حتى قبل أن تختتم أعمالها فإن هذه القمة لا يمكن إلا أن تكون قمة ناجحة فهي أعادت الاعتبار للوضع العربي الذي كان «لا يسر الصديق ولا يغيظ العدا» وهي لملمة شمل العرب ولو بالحدود الدنيا وهي أكدت على انبثاق مرجعية عربية لا يمكن تجاوزها والقفز من فوق رأسها، وقد أعادت القضية الفلسطينية إلى الأضواء وأعادت إليها الاهتمام العالمي وهي أحلَّت محل السلبية السابقة التي سادت على مدى أكثر من عقد من الأعوام دبلوماسية واقعية هجومية، عنوانها السلام على أساس المبادرة التي أقرت في قمة بيروت عام 2002.

غير متوقع أن تطفئ هذه القمة كل النيران المشتعلة في المنطقة العربية، بما في ذلك الملف النووي الإيراني، فهذا يحتاج إلى المزيد من الجهد والمزيد من الوقت والمزيد من التنسيق والعقلانية على الأقل، لكنها، وهذا نجاح لا ينكره إلا العدميون والمزايدون والظلاميون، تمكنت من إعادة العرب إلى بداية الطريق الصحيح والمثل الصيني يقول: «إن طريق الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة»، ولعل ما لا يمكن إنكاره هو أن هذه الخطوة هامة وواعدة وأنها أسست لخطوات عملية كثيرة قادمة.