نداء القدس لقمة الرياض

TT

* أفعى الإسمنت:

منذ سنوات قليلة ماضية كانت القدس ـ كما هي اليوم ـ تحت الاحتلال الإسرائيلي، وكانت ـ كما هي اليوم ـ معزولة عن أهلنا وإخواننا العرب والمسلمين، إلا أنها كانت إلى حد ما مفتوحة أمام أبناء فلسطين القاطنين في الـ 48 وفي الضفة الغربية، وقد كان هذا القدر اليسير من العلاقة بالقدس يساعدها كثيرا في مواجهة قدرها مع الاحتلال ويؤمن لها الحد الأدنى من المواجهة والصمود.

ويبدو ان الاحتلال تنبه لآخر أسباب القوة التي تتكئ عليها المدينة المقدسة، وتحاول من خلالها ان تتصدى للمصير الأسود الذي يراد بها، فبدأ بتنفيذ مخططات تسعى إلى إحكام القبضة عليها وعزلها عن أهلها، ثم بعد ذلك بدأ بتحويل هذه الإجراءات إلى خطوة خطيرة، تقوم على إحاطة القدس بسور إسمنتي مسلح، يحيط بالمدينة من جميع الجهات التي كان ينفذ منها الفلسطينيون، وقد ترتبت على هذا التغيير مسائل خطيرة نلخصها في النقاط المختصرة التالية:

أولا ـ عزل مدينة القدس عن أهلها ومحيطها العربي عزلا كاملا، فلم يعد الدخول إلى القدس ممكنا إلا عن طريق بوابات محد دة، وبواسطة أوراق وتصاريح تصدرها سلطات الاحتلال لمن تشاء، ونسبتها ضئيلة ولا تكاد تذكر، وبناء عليه أضحت زيارة معظم بقاع الأرض أيسر على أهل فلسطين من زيارة القدس التي يرونها بأعينهم ويسمعون أذانها بآذانهم !

ثانيا ـ أكثر أهل القدس ومن منطلق انتمائهم وهويتهم كانوا قد ركزوا مصالحهم وأعمالهم في المحيط العربي حول القدس كرام الله وبيت لحم وغيرهما، واليوم يتحتم عليهم بفعل السور الانتظار ساعات طويلة عند الخروج من القدس وعند الرجوع إليها، وذلك بفعل البوابات والإجراءات، فكم من الوقت ـ يا ترى ـ يستطيع ان يصمد هؤلاء المقدسيون تحت هذا الضغط اليومي الذي لا يحتمل؟

ان الاحتلال يدفع بهم نحو التفكير بالخروج من القدس والسكن بالقرب من أماكن عملهم ومصالحهم، وهذا بالتحديد ما يريده، قدس لليهود وحدهم، من غير مسلمين ولا مسيحيين.

ثالثا ـ أدى هذا العزل ايها القادة الى إضعاف قدرة المقدسات الإسلامية والمسيحية على الدفاع عن وجودها المستهدف، وذلك نتيجة عجز أتباع هذه المقدسات عن الوصول الى مقدساتهم والتواصل المستمر معها، وهذا الواقع شجع دولة الاحتلال والمنظمات اليهودية المتطرفة على تكثيف هجمتها على هذه المقدسات وعلى رأسها المسجد الأقصى المبارك، ولو تمكن المسلمون من الوصول الى الأقصى كما كان حالهم قبل سنوات لما تجرأت دولة الاحتلال على فعل ما تفعل اليوم !

رابعا ـ إن واقع حياة المواطنين العرب في القدس لم يعد يحتمل، فهناك ضرائب باهظة تفرضها سلطات الاحتلال على كل شيء، حتى على أجزاء من الأثاث، وتضع شروطا تعجيزية على إصدار رخص البناء، ما يجعل من حصول عربي على رخصة بناء شيئا شبه مستحيل، وهذا دفع المواطنين المقدسيين إلى البناء بدون انتظار هذه الرخص التي لن تأتي، والمغامرة بأموالهم وحياتهم رغم علمهم المسبق بان سلطات الاحتلال ستهدم هذه المباني بحجة عدم الترخيص، وقد وصل عدد المباني العربية غير المرخصة اليوم الى ما يقرب من أربعين الف مبنى، وهذا يفاقم الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يحياها المقدسيون، فالقدس التي تحتاج سنويا الى حوالي 365 مليون دولار فقط لتلبية احتياجاتها كما هي عليه اليوم، ودون تطوير او توسيع لهذه الاحتياجات، بدأت تختنق أكثر وأكثر جراء هذا السور وهذا العزل الخطير والمستمر.

* القدس .. مقدسات ومقدسون !

لا شك أن المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، بعيدا عن أهلها وعن المؤمنين بها، تتحول إلى أكوام من الحجارة والتحف التي لا معنى ولا قيمة كبيرة لها، وهذا يقتضي الاهتمام بالمواطن المقدسي وتعزيز صموده في وطنه، إلا أن هذه الحقيقة ليست بديلا للحقيقة الأخرى وهي أن القدس بدون المقدسات والمعاني المقدسة التي ترتبط بعقيدة ثلاثة أرباع سكان الكرة الأرضية، لا قيمة لها، وتبدو من هذه الزاوية قطعة بائسة ومقفرة من الجغرافيا إذا ما قورنت بغيرها من بقاع الأرض.

فدوائر القدس الحقيقية أكبر بكثير من الدائرة الجغرافية، وعلى قادتنا ان يعملوا على إعادة الاعتبار للقدس على أساس مكانتها الدينية وليس على اساس مساحتها الجغرافية فحسب، فالقدس أيها القادة هي أقدس بقعة عند المسيحيين، وجغرافيتها الصغيرة اختزلت بين ثناياها المسيرة الكبيرة لعيسى عليه السلام من مولده الى نهاية وجوده على الأرض، فهي تمثل لإخواننا المسيحيين البداية والنهاية، اما بالنسبة لنا كمسلمين، فالقدس برزت في عقيدتنا قبل أن تبرز أربعة أركان من أركان الإسلام الخمسة، فالله ربط المسلمين بالقدس قبل ان يفرض عليهم الصلاة والزكاة والصيام والحج، وفي الوقت الذي كان القرآن يوثق فيه علاقة المسلمين بالله وبعقيدة التوحيد، كان أيضا يوثق علاقتهم بالقدس، ثم بعد ذلك ولد الركن الثاني من أركان الإسلام في أحضان العلاقة بالقدس وخلال رحلة الاسراء، وأول ما ترجم هذا الركن على الأرض ترجم في القدس حيث صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأقصى إماما بالأنبياء، ثم بعد ذلك جعلت القدس هي القبلة الأولى للمسلمين، وكأن الله سبحانه أراد أن يقول لكل المسلمين في كل العصور، وللقادة العرب في قمة الرياض أيضا، إن مكانة القدس وموضعها يجب أن يكونا في قلوبكم وبين أيديكم وأمام عيونكم وليس وراء ظهوركم!

ماذا تريد القـدس من قمة الرياض ؟!

المسافة كبيرة بين ما تريده القدس وما تستطيعه القمة، إلا أن المسافة كبيرة أيضا بين واقع القدس البائس وبين ما يمكن أن تحققه القمة في هذا الموضوع، لهذا نحن لن نتحدث عن تحرير القدس وإن كنا نعلم أن هذا ما أرادته وما تريده القدس إلى أن يتحقق، وسنطالب فقط بالإسعافات الأولية لوقف النزيف والحفاظ على الحياة، وهو الحد الأدنى الذي يمكن للقدس أن تقبله من قمة قادتها، ويمكن تلخيصه في نقاط واضحة ومختصرة :

أولا ـ العمل الجاد والدؤوب على إزالة الجدران والأسوار من حول القدس، أولا الأسوار العربية التي فرضت على أولى القبلتين، أسوار النسيان والإهمال التي كادت أن تعزل القدس عن وجدان الأمة، ثانيا الجدار الإسمنتي الذي بناه الاحتلال حول القدس، لأن استمرار هذا الجدار يعني في الحقيقة سرقة القدس من أهلها العرب والمسلمين، وتحويلها إلى حارة يهودية مغلقة، ويعني هذا أيضا استمرار عزل المقدسات الإسلامية والمسيحية عن كل المؤمنين بها.

ثانيا ـ اتخاذ قرارات واضحة وقاطعة بدعم وتعزيز صمود المواطن المقدسي بكل الوسائل وعلى كل المستويات، وعلى رأس ذلك وفي مقدمته الدعم المالي والمادي والقانوني والسياسي، فترك هذا المواطن يخوض معركة القدس الشرسة بمفرده وبإمكانياته البسيطة وصدره العاري، هو مساهمة مباشرة في تهويد القدس وتفريغها من أهلها، وتركها لقمة سائغة للاحتلال.

ثالثا ـ إعادة الاعتبار والهيبة للمقدسات الإسلامية والمسيحية وعلى رأسها الأقصى، وإعادة التأكيد على مكانة هذا المقدس الكبير في عقيدة المسلمين، وإعادة رسم الخطوط الحمراء في القدس من جديد، وإعادة الأقصى والمقدسات للسيادة العربية والإسلامية، خاصة ان إسرائيل بدأت تتصرف في السنوات والشهور الأخيرة وكأن الأقصى من مقدساتها، وهي فعليا قطعت شوطا كبيرا في الاستيلاء على أجزاء من هذا المسجد أقدرها على مسؤوليتي الشخصية بأكثر من 25%، وهي مستمرة في توجهها نحو فرض شراكة يهودية في أولى القبلتين، على غرار تجربتها الناجحة في الحرم الإبراهيمي في الخليل، وكأن هذا المقدس الإسلامي أضحى أملاك غائبين ولا أصحاب له في هذا العالم !!

رابعا ـ التصدي المستمر وعلى أعلى المستويات لإجراءات ومخططات تهويد المدينة وتحويلها إلى عاصمة للدولة اليهودية، وتكثيف الاستيطان والمستوطنات فيها وحولها، فإسرائيل تعمل في الليل والنهار وبامكانيات هائلة على تغيير واقع القدس وتحويل الاحتلال إلى أمر واقع في كل شارع من شوارعها وفي كل شبر منها، واستمرار التغاضي عما تفعل إسرائيل في القدس هو مساهمة مباشرة في تهويدها من حيث ندري أو لا ندري.

فالقدس أيها القادة هي التي منحت الحجر معنى القداسة، وهي أيضا التي تمنح من يدافع عنها ويرابط فيها هذا المعنى، فحجر القدس مقدس، وشجر القدس مقدس، وابن القدس المرابط فيها وفي أكنافها مقدس، والثري العربي الذي يعزز صمود أهلها مقدس، والقائد العربي الذي يلبي نداء القدس مقدس، وأيضا القمة التي تعنى بهموم القدس هي أيضا مقدسة.

* المنسق العام للجبهة الإسلامية ـ المسيحية للدفاع عن القدس والمقدسات بالقدس