دبلوماسية الهدوء القانوني.. مقابل دبلوماسية الخطف

TT

الأزمة التي افتعلتها ايران، باختطاف البريطانيين من زورقي دورية البحرية الملكية، تثير تساؤلات حول دوافع طهران، فيما اعتقدت «كسبه» من المغامرة الهوليودية جنوب شط العرب، او كمحاولة لتحويل انتباه العالم عن هزيمتها الدبلوماسية.

أضافت المغامرة بقعة الى سجل الجمهورية الاسلامية المخجل، للانتهاكات المتكررة للقانون الدولي ولحقوق الانسان، الى جانب التدخل في شؤون الاخرين، وكذب دبلوماسييها العلني. وجاءت حلقة جديدة لمسلسل اختطاف اولاد وبنات الناس، من مختلف الجنسيات، واخذهم رهائن، مباشرة، او عن طريق وكلاء محليين Local Dealers يعملون، بترخيص من طهران، لتوزيع الخدمات والمهام «الثورية الاسلاموية».

حكومة الرئيس محمود احمدي نجاد، في توقعي، ستجني من الخسائر اضعاف ما قدرته سذاجتها الثورية من «مكاسب» في الدوائر الغوغائية، وفي فضائيات البروباجندا الجوبلزية، واوساط محترفي تسيير مظاهرات أجسام بلا عقول في شوارع ايران والمنطقة.

تحاشت إيران الامريكيين والاسرائيليين، كالبلطجية الذين يتحاشون فتوات وقبضايات الاحياء المجاورة، فيتطاولون فقط على اولاد الناس المحترمين المهذبين، لان «أصابعهم سريعة على الزناد»، فيكون ثمن المغامرة عواقب وخيمة على المدن الايرانية.

اختار «فتوات» ما يسمى بالحرس الثوري ـ واحيانا الحرس الجمهوري الاسلامي ـ اختطاف اولاد من يفضلون الدبلوماسية الهادئة المهذبة على المواجهات المسلحة.

الحادثة أعادت للأذهان اقتحام شباب «الثورة الاسلامية» (نواة الحرس الثوري لاحقا) للسفارات، انتهاكا للبروتوكولات الدولية واتفاقية فيينا للبعثات الدبلوماسية، مثل احتلال السفارة الامريكية في طهران عام 1980، واخذ موظفيها رهائن. ابرز زعماء الهائجين وقتئذ، كان الشاب احمدي نجاد، الرئيس الحالي لايران مظهرا موهبة مبكرة في افتعال الازمات وتوتير العلاقات الدولية.

صقلت مجموعة احمدي نجاد اسنانها في ازمة الرهائن الامريكيين «كبروفة» لاختطاف الرهائن كشرارة لاشعال ازمات قادمة. تخرجت المجموعة في مدرسة الاختطاف لتصبح «القوات الخاصة» للمهام الخارجية، مثل تصدير المتاعب والفوضى، او «الريموت كونترول»، الذي يضغط عليه المتشددون في طهران، فيثير وكلاؤهم المحليون، كنسخ متعددة من حزب الله، المتاعب في امم الخليج، ولبنان وفلسطين.

غدر الحرس الثوري، الأسبوع الماضي، بالبحارة البريطانيين اثناء نزولهم، متعلقين بالحبال بعد تفتيشهم الروتيني لسفينة تجارية في المياه الاقليمية العراقية، في تكرار لكمائن الثمانينات في بيروت لعصابات

(تدرب زعماؤها في طهران على يد الحرس الثوري) اختطفت الرهائن والمسافرين. احتجز وكلاء طهران المحليون الرهائن طلبا للفدية من حكوماتهم وابتزازها بتقديم قوائم لاسلحة متقدمة وقطع غيارها لتصديرها لايران، مقابل الإفراج عنهم، مثلما كشفت فضيحة مقايضة الرهائن في لبنان بالسلاح، التي رتبها الايرانيون مع الكولونيل اوليفر نورث، مساعد مستشار الامن القومي في ادارة الرئيس رونالد ريجان.

في الصيف الماضي ضغطت اليد الثورية على «الريموت كونترول» ليفجر الوكيل اللبناني ازمة اختطاف جنود اسرائيليين، مما نجم عنه سقوط مئات القتلى من الجانبين، اغلبهم من المدنيين، ولم تحل الازمة حتى الان، وربما تتفجر مرة اخرى.

الحرس الثوري فجر الازمة الحالية متعمدا، حسب ادلة قانونية ومادية.

تسلسل الوقائع سجلته اجهزة علمية متقدمة (تفوق في تكنولوجيتها شبيهاتها الايرانية) كالنظام العالمي لتحديد الموقع (GPS) Global Positioning System، والاقمار الصناعية، وكاميرا في الهليكوبتر التابعة لسفينة جلالة الملكة «كورونوول» HMS Cornwall سجلت لحظة الاختطاف.

تفتيش السفن، مهمة دورية روتينية تتكرر عدة مرات يوميا، تحت سمع وبصر الايرانيين، مما يكذب اتهام زورقي البحرية الملكية بالاعتداء على مياه ايرانية. دورية التفتيش مهمة قوة دولية مفوضة بقرار مجلس الامن رقم 1723 (وانتهاك ايران للقانون الدولي يدخلها في مواجهة مع المجتمع الدولي ممثلا في مجلس الامن). مهمة القوة الدولية، التي تقودها HMS Cornwall هي فرض القانون الدولي بحماية حدود العراق من التهريب وحماية المياه الاقليمية، للأمة العراقية التي انتهكتها الزوارق الحربية الايرانية بدخولها من دون اذن من بغداد. وزير الخارجية العراقي هوشيار زيباري اكد ذلك ضمنيا، بطلبه علنا من طهران، مشكورا، الافراج فورا عن بحارة يقومون بحماية مياه وحدود بلاده، وبالطبع ستخسر ايران الرأي العام العراقي.

اما جيران ايران، فيرون في مغامرة الحرس الثوري، بروفة، لبلطجة قادمة في مياههم الاقليمية، مما يفقدها تعاطفهم.

لو كان الامر «سوء تفاهم»، كاقتراح الدبلوماسيين البريطانيين للسفير الايراني لتخليصه من المأزق من دون اراقة ماء الوجه، لكان الرهائن بين ذويهم منذ خمسة ايام.

فالقانون الدولي يحصر اجراءات التعامل مع سفينة حربية دخلت المياه الاقليمية لبلد آخر، في تبليغ السفينة، بأي وسيلة متاحة، دخولها المياه الاقليمية، من دون اذن وعليها مغادرتها، وانتظار التأكد من تسلم الاشارة. ويكون للبلد الخيار في منح اذن البقاء وفق مدة محددة، او ارسال زورق او طائرات حربية لمرافقة السفينة حتى تصل المياه الدولية. المساس بالسفينة بمثابة عدوان على بلد السفينة، حيث تمتد سيادته الى السفينة في اي مكان.

البحرية الملكية، التي ضمنت سيادة بريطانيا للبحار لثلاثة قرون، قادرة على اغراق كامل البحرية الايرانية في دقائق معدودة، ورغم ذلك، اختارت حقن الدماء. فكعادتها، تعاملت الدبلوماسية البريطانية مع الازمة بهدوء لتوفر للايرانيين وسيلة النزول من فوق الشجرة، التي علقوا انفسهم بها، حتى بعد ان نبههم السفير البريطاني في طهران الى أن الخرائط الإيرانية المقدمة السبت الماضي، تؤكد وجود زوارق البحرية الملكية داخل المياه العراقية.

وعندما كذب الايرانيون بتقديم خرائط جديدة يوم الاثنين، غيروا فيها موقع الاختطاف، اضطرت وزارة الدفاع البريطانية، لتقديم الادلة المادية علنا، وباللغة المهذبة نفسها:

الناقلة موضع التفتيش لم تسحب مرساتها منذ القتها صباح الجمعة 23 مارس، ولا تزال داخل المياه العراقية.

خرائطGPS لاثبات موقع الاختطاف، دليل آخر تناقلته الصحافة العالمية، بينما جدعت طهران انفها بانتهاكها اتفاقيات جنيف والذوق العام بعرض الرهائن في التلفزيون، خاصة ضابطة البحرية فاي تيرني، مما وضع للازمة وجها انسانيا حشد قلوب الامة البريطانية ؛ فالمدام تيرني وردة انجليزية English rose في العشرينات وام لطفلة في الثالثة.

قبل اسبوع، عارضت اغلبية البريطانيين مشاركة واشنطن في عمل عسكري ضد المنشآت النووية الايرانية، واليوم يضغط الرأي العام لاتخاذ موقف متشدد مع طهران ويؤيد اتخاذ «اي اجراء» لانقاذ الرهائن.

توقيت افتعال الازمة يجعلها محاولة لصرف الانتباه عن هزيمة طهران الدبلوماسية في مجلس الأمن بفرضه القرار 1747 الخاص بالعقوبات.

لكن دبلوماسية اختطاف الرهائن المفضلة للحرس الثوري، منذ ازمة السفارة الامريكية، هي ايضا «بروفة» للتعامل مستقبلا مع القوة الدولية، التي ستقودها البحرية الملكية، التي ستتأكد من عدم خرق «المهربين» للقرار 1747، بتفتيش السفن المتجهة للموانئ الايرانية.

وربما يهلل مؤيدو احمدي نجاد، في فضائيات الصراخ القومجية الثورجية بنفس حماس احمد سعيد، لكن فاتهم درس تهليل «صوت العرب» لغوغائية الكولونيل جمال عبد الناصر ومغامراته الحمقاء، التي دفعت الامة المصرية ثمنها باهظا، في تخريب اقتصادها واهدار دماء ابنائها فوق رمال غير مصرية في حروب الغرباء، بينما افقدتها تأييد الاصدقاء.