قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 194

TT

رغم أن العالم العربي لم يعرف كثيرا الديمقراطية وحكم القانون كما هما معروفان في الدولة المتقدمة الحديثة، فإن المعلقين والساسة والمفكرين العرب شغوفون للغاية بالقانون الدولي و«الشرعية» الدولية؛ وفي مقدمتها القرارات الصادرة عن الأمم المتحدة سواء كان قرار التقسيم لعام 1947 أو القرار 242 الشهير عام 1967 و338 الذي لا يقل شهرة عنه عام 1973. ولكن ربما لم يحظ قرار بالشهرة قدر القرار 194 الذي ما أن يذكر حتى يفهم منه أنه يقضي بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أراضيهم التي أجبروا على النزوح منها نتيجة العدوان الوحشي الإسرائيلي. ومنذ مباحثات كامب دافيد الثانية في يوليو (تموز) 2000، فإن هذا القرار أصبح له أهمية خاصة، فقد قيل إنه كان السبب في انهيار التوصل إلى سلام فلسطيني ـ إسرائيلي لأن الرئيس ياسر عرفات ـ رحمه الله ـ رفض صفقة لا تتضمن تنفيذ القرار المذكور باعتباره تطبيقا لحق العودة. ومنذ صدور المبادرة العربية في مارس (آذار) عام 2002 في بيروت وحديثها عن حل عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين، يقوم على اتفاق الطرفين. واستنادا إلى القرار 194، فإن النقاش في الإعلام العربي جرى حول ما إذا كان ذلك يعد تفريطا في حقوق اللاجئين، أو أنه يؤدي إلى عودتهم إلى ديارهم بعد طول غياب. وأثناء انعقاد القمة العربية التاسعة عشرة في الرياض، فإن قناة «الجزيرة» في قطر لم تترك معلقا على القمة إلا وهو يطرح السؤال عما إذا كان جوهر المبادرة العربية هو التنازل عن حقوق اللاجئين كما جاءت في القرار المقدس.

هذا المقال هو من نوعية مقالات المعلومات التي تعرف القارئ بموضوع سوف يكون متداولا بشدة خلال الأيام والأسابيع المقبلة حقا وصدقا، وكذبا ونفاقا؛ فكما قال تشرشل ذات يوم إن علينا أن نعرف الحقائق أولا ثم نشوهها بعد ذلك، بمعنى أن نعرف ما لا يختلف عليه أحد ثم بعد ذلك يلقي كل طرف بتفسيراته المحملة بالهوى والمصلحة. وتعرف الأمم المتحدة «اللاجئ الفلسطيني» على أنه الشخص الذي كانت «فلسطين مكان إقامته المعتادة بين يونيو (حزيران) 1946 ومايو(أيار) 1948، والذي فقد بيته ووسيلة معيشته كنتيجة للصراع العربى ـ الإسرائيلي؛ بالإضافة إلى نسله، وبدون اعتبار عما إذا كان يعيش في معسكرات لاجئين محددة أو في مجتمعات قائمة». وقد قدرت الأمم المتحدة عام 1950 عدد اللاجئين الفلسطينيين الذين فروا من بلادهم بأنهم 711000 وبلغ عدد المسجلين لدى المنظمة الدولية أربعة ملايين عام 2002؛ ثلاثة أرباعهم موزعون بين الأردن وغزة والضفة الغربية والباقي موزع بين سورية ولبنان والسعودية ومصر والولايات المتحدة وكندا.

وبداية، فإن القرار 194 ـ المكون من 15 بندا والذي صدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 11 ديسمبر (كانون الأول) 1948 ـ لم يكن قرارا خاصا باللاجئين، ولكنه كان قرارا خاصا بآلية تسوية الصراع العربي ـ الإسرائيلي. فبعد البند الأول الذي حيت فيه الجمعية العامة وسيط الأمم المتحدة فولك برنادوت على جهوده، فإن البند الثاني يطالب بتشكيل لجنة للمصالحة Conciliation Commission تتكون من ثلاثة أعضاء في الأمم المتحدة، ويختارهم ـ وفقا للبند الثالث ـ الأعضاء الخمسة الدائمون في مجلس الأمن ـ الصين وفرنسا واتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية والمملكة المتحدة والولايات المتحدة. وتقوم هذه اللجنة بالقيام بمهام وسيط الأمم المتحدة، وتنفذ القرارات الصادرة عن الجمعية العامة ومجلس الأمن، ولجنة الهدنة. ووفقا للبند الرابع، فإن اللجنة كان عليها أن تبدأ العمل فورا بحيث تعمل على إنشاء اتصال ومفاوضات ـ وفقا للبند الخامس ـ بين الأطراف أنفسهم ـ أي بين الدول العربية وإسرائيل ـ ولجنة المصالحة أو بشكل مباشر بين الأطراف نفسها من أجل التوصل إلى تسوية نهائية للقضايا المعلقة بينهم كما جاء في البند السادس.

أما البنود الثلاثة التالية، فإنها ركزت على التعامل مع القضايا الآنية التي نتجت عن الحرب العربية ـ الإسرائيلية الأولى؛ ومنها العمل على أن تبقى مفتوحة محاور الوصول إلى الأماكن المقدسة ـ بما فيها الناصرة ـ في القدس وبيت لحم، وإدارة مدينة القدس التي سوف تكون ـ وفقا لقرار التقسيم ـ واقعة تحت سيطرة الأمم المتحدة. وتم تعريف نطاق إدارة الأمم المتحدة على أنها تشمل بلدية القدس والقرى والمدن المتاخمة لها والتي تشمل قرية أبو ديس في الشرق، وبيت لحم في الجنوب وعين الكرم في الغرب والشوفات في الشمال. وفى البند العاشر فإن القرار يطلب من لجنة المصالحة أن تتخذ الإجراءات التي تكفل تسهيل الحياة الاقتصادية والوصول إلى الموانئ والمطارات واستخدام وسائل المواصلات والاتصالات.

وهنا يأتي البند الحادي عشر الشهير الخاص باللاجئين والذي يقول إن اللاجئين «الذين يريدون العودة إلى منازلهم والعيش في سلام مع جيرانهم يجب أن يسمح لهم بالعودة في أقرب وقت عملي ممكن، وأن يدفع التعويض عن الممتلكات لهؤلاء الذين يقررون عدم العودة أو للضرر في الممتلكات وفقا لقانون الدولي». وواضح من هذا النص ليس فقط أنه مرتبط بوجود لجنة المصالحة والمفاوضات المباشرة أو غير المباشرة وإنما أيضا بوجود حالة من السلام بين الأطراف المعنية تسمح للجنة بالقيام بمهامها في تسهيل عودة اللاجئين، أو إعادة توطينهم وتعويضهم ومراعاة أحوالهم بالتعاون مع وكالة غوث اللاجئين وهيئات الأمم المتحدة المعنية.

البنود الثلاثة التالية كلها إجرائية وإدارية فيما يتعلق بعمل لجنة المصالحة، ولكن ربما سوف يثير دهشة الكثيرين أن إسرائيل وافقت على القرار فى حينه لأن موافقتها عليه كانت ضرورية لقبولها عضوا في الأمم المتحدة، وهو ما أضفى الشرعية الدولية على دولة إسرائيل. ولكن ما يثير الدهشة أكثر أن الدول العربية ـ مصر والعراق ولبنان والسعودية وسوريا واليمن ـ رفضت القرار لأنه كان يؤدى إلى الاعتراف بإسرائيل التي كانت معروفة آنذاك بالكيان المزعوم، ويربط عودة اللاجئين بالسلام معها، وهو ما لم يكن مقبولا مع دولة قامت على أشلاء الوطن الفلسطيني.

ومن غير المعروف تماما النقطة التي بدأت فيها الدول العربية اعتبار القرار 194 الذي كان يعتبر جرما لا يقل عن قرار التقسيم نوعا من الإقرار بـ«حق العودة»، ولكن مع نهاية الستينات بدأت أدبيات منظمة التحرير الفلسطينية تؤكد هذه النقطة. أما الجانب الإسرائيلي، فقد فسر القرار منذ البداية من خلال إنكار الدور الإسرائيلي في «النكبة» والتأكيد على عبارة «يجب أن يسمح لهم» على أنها تشير إلى أن الأمر لا يمثل «حقا» وإنما يتوقف على الإرادة الإسرائيلية ورغبتها طالما توجد بدائل أخرى. وأضيفت إلى ذلك عبارة «والعيش في سلام» باعتبارها شرطا للتعامل مع القضية، وطالما أن الجانب الفلسطيني ـ والعربي أيضا ـ لم يكن يريد الاعتراف بالدولة الإسرائيلية فإنه لا مجال لتطبيق القرار. ومع ذلك، فإن إسرائيل عرضت خلال مؤتمر لوزان عام 1949 أن تسمح بعودة 75 ألف فلسطيني على أن يكون جزءا من صفقة شاملة لتسوية القضية الفلسطينية مع الدول العربية ولكن هذه الأخيرة رفضت. وخلال التسعينات، قام عدد من المؤرخين الإسرائيليين «الجدد» بالاعتراف بمسؤولية إسرائيل جزئيا عن مأساة اللاجئين الفلسطينيين، وخلال نفس العقد، انتقل عدد يتراوح بين 140 ألفا و250 ألف فلسطيني للعيش في إسرائيل.

والآن ـ عزيزي القارئ ـ إذا وجدتَ أية مشابهة بين ما جَرَى منذ ستة عقود تقريبا وما يجري الآن، فإن المشابهة محض صدفة وغير مقصودة تماما!