بغداد.. أي مفاتيح سَلمها ابن العلقمي؟!

TT

اعتاد التلفزيون العراقي عرض مشهد لأمين عاصمة بغداد، وهو يسلم مفتاحاً عملاقاً لرؤساء الدول الضيوف، محفوظاً في علبة قشيبة، ضرباً من ضروب المجاملة على شاكلة «يا ضيفنا لو زرتنا لوجدتنا...»، مع العلم، أنه لم يبق من بغداد العباسية لا بوابة ولا مفتاح. وقبل أسابيع جاء في مقالتي «أعتى الغزاة لم يمس مدرسة المستنصر»، على صفحات هذه الجريدة، إشارة إلى براءة الوزير مؤيد الدين بن العلقمي (ت 656هـ) من تسليم مفاتيح بغداد لهولاكو. ويومها طالبني قُراء كرام بتوضيح ما.

وها أنا أجد المناسبة مؤاتية بمرور 749 سنة على الغزو المغولي، وأربع على الغزو الأمريكي. فقبل حين أغرت التهمة شاعرنا معروف الرصافي (ت 1945)، وهو الداعي إلى عدم الثقة بالرواية التاريخية لقوله: «أبت كُتب التاريخ للحقِ مُلتقى...». إلا أني أراه نَظم على الشائعة لا التوثيق في الوزير المذكور: «فأضمر للمستعصم الغدر وانطوى...»(الديوان، 1925). أقول إذا كان الرصافي وهو المتوجس من كتابة التاريخ، أغرته رواية مهزوزة الأساس مثل هذه، فما بالك بالآخرين؟

ومن هؤلاء الآخرين كُتاب أدباء حشروا روايات التاريخ في خواطرهم حشراً، من الذين سموا المعارضة العراقية السابقة بـ«أولاد ابن العلقمي»، تذكيراً بالخيانة العظمى المفترضة. حاول أحد هؤلاء دحر مقالة سابقة لي في براءة الوزير، بالقول: أكدها الطبري في تاريخه! فقلت: كيف؟ وقد توفي الطبري السنة 310هـ، وكان الغزو المغولي السنة 656هـ. ثم تأملني، وقال: أقصد ابن الأثير! قلت: وهذا توفاه الله قبل الغزو بربع قرن! وكُتاب، وليس كاتب واحد، حشروا رواية جريان دجلة بلون الدم ولون الحبر، وهم يكتبون عن كارثة سوق الكتب الأخيرة ببغداد، لا متضامنين بل شامتين، من دون أن يقايسوها، ويعرفوا أن مكتبة المدرسة المستنصرية، وهي أكبر المكتبات، سلمت من كل سوء. وأن لجاناً شُكلت بٌعيد الغزو لإعادة المكتبات الأخرى إلى وضعها السابق قبل حصار بغداد، فكُتب كثيرة بيعت إلى البلدات المجاورة مقابل الطعام، من قَبل الاجتياح. «كان أهل الحلة والكوفة والمسيب يجلبون إلى بغداد الأطعمة فانتفع الناس بذلك، وكانوا يبتاعون بأثمانها الكتب النفيسة وصفر المطعم» (الحوادث الجامعة). عمل في تلك اللجنة الوجهاء الشافعيون: الأخوان عز الدين وموفق الدين ابنا أبي الحديد، والمؤرخ ابن الساعي، صاحب كتاب «أخبار الحلاج». هذا ما رواه أسير المغول ابن الفوطي في «تلخيص مجمع الآداب في معجم الألقاب». وبهذا يصعب تصديق رواية ابن تغرى بردى (ت 873 هـ) بأن شُيدت من الكُتب الجسور، وهي كواغد لا أحجار! وكم تكون الروايات مجرد كلام إذا قرأنا لابن خلدون (ت 808هـ) الرواية التالية: «ألقيت كُتب العلم، التي كانت في خزائنهم بدجلة معاملةً بزعمهم لما فعله المسلمون بكتب الفرس عند فتح المدائن» (كتاب العبر). ليس من شأننا الدفاع عن الغُزاة القساة المغول وأضرابهم، إنما هي محاولة لوقاية ذاكرتنا من الإشاعة فحسب.

على أية حال، هناك مختلقات لا تعد في التاريخ، وهو قد كُتب بالآحاد لا بالمتواتر، وحتى الرواية المتصلة تُضاعف بغمرة العواطف، وتداولها على الألسن وفي الآذان. فلا أجد رواية حرق طارق بن زياد (ت 102هـ) للسفن! غير حكاية خيال. وما شخصية عبد الله بن سبأ، وما نسب إليه من تأسيس الشيعة، إلا وهم من الأوهام. ولا معنى عندي لنسبة إمام الرأي، والتقدم المبكر، أبي حنيفة (قُتل 150هـ)، على الشائعة، إلى بلاد فارس، وهو العراقي غير العربي. أو ما نُسب إليه: «لولا السنتان لهلك النعمان»، إشارة إلى تلمذته لدى الإمام جعفر الصادق (ت 148هـ)، وهي لا أصل لها أبعد من القرن السادس عشر الميلادي. وأرى بما نُسب إلى هارون الرشيد (ت 197هـ) من تهور وتحلل إلا ملفقات. وغير هذا كثير. وأسوة بما تقدم لا توصلني قراءة التاريخ إلى خيانة رئيس تشريفات الخلافة العباسية، ثم أستاذ دارها، ثم وزيرها، السياسي والمثقف ابن العلقمي.

وحتى نكون على بينة بما سبق من روايات خلق شماعات لتعليق الفشل، ذكر الحموي (ت 626هـ)، أن هناك مَنْ سلم مفاتيح نيسابور لجد هولاكو جنكيزخان. قال: السنة 548هـ «إن علوياً كان متقدماً على أحد أبوابها راسل الكُفار يستلزم منهم على تسليم البلد، ويشترط عليهم أنهم إذا فتحوه جعلوه متقدماً فيه، فأجابوه (معجم البلدان). إلا أن النتيجة لا ذلك العلوي شهد دولة علوية، ولا ابن العلقمي شهد دولة شيعية. ومن الإنصاف كان العلويون موقرين، من غير الثائرين الزيدين وغيرهم، لدى خلفاء بني العباس بعد المتوكل (ت 247هـ).

أول المؤرخين المعتمدين في قضية ابن العلقمي هو ابن أبي الحديد (ت 656هـ)، وهو شافعي الفروع، ومعتزلي الأُصول. تحدث عن دور ابن العلقمي في رد هجوم المغول الأول (السنة 643هـ) عن بغداد (شرح نهج البلاغة). وأتى ابن الكازروني (ت 697هـ) على ضعف جيش الخلافة، ولم يتهم أحداً. وأتى رشيد الدين الهمداني (قُتل 718هـ)، وهو وزير ومؤرخ المغول، على الرسائل المتبادلة بين الخليفة وهولاكو، وذكر نصيحة الوزير أن يُعد وفد وهدايا نفيسة لرد الغازي، ووافق الخليفة إلا أن خصوم الوزير أثنوه، وأخذ الخليفة يهدد هولاكو بما ليس لديه. وقال مشخصاً مَنْ طلب من المغول القدوم، وهو غير ابن العلقمي: «كان قاضي القضاة المرحوم شمس الدين القزويني موجوداً في بلاط الخان، وذات يوم ظهر للخان مرتدياً الزرد (درع)، وأخبره أنه يلبسه تحت ثيابه خشية الملاحدة (النزاريون أو الحشاشون)، كما سرد له طرفاً من اعتدءاتهم وغاراتهم» (جامع التواريخ).

وأفصح مؤرخ معاصر للحدث، وهو صاحب «الحوادث الجامعة» عن معاناة الوزير وشكواه من عدم الأخذ بمشورته، وهو السياسي الحصيف. وذكر مؤرخ معاصر أيضاً، وهو ابن العبري (ت 685هـ) مراسلات الخليفة مع هولاكو، ونصائح الوزير التي لم تُسمع (تاريخ مختصر الدول). ولم يذكر ابن الطقطقي (ت 708هـ)، وكان على صلة بابن الوزير وابن أخته، شيئاً سوى محاولاته لدرء الخطر عن الخلافة (الفخري).

ومما لا ريب فيه، أن أمراً جللاً، بحجم سقوط الخلافة، لا تُستغرب فيه شائعة الاتهام، وما يشوبها من التأويلات. لذا ما أن تسلم المؤرخون، على حد عبارة الهمداني، الشائعة من خصوم الوزير، حتى دسوها في التاريخ، فجاءت غير معقولة لدى اليونيني (ت726هـ) في «ذيل مرآة الزمان»، ومن أتى من بعده حتى ابن خلدون، فقال في ابن العلقمي: «يصانع التتر»، وقال ما هو أغرب ومتناقض «ثم اضطرب فقتله هولاكو» (كتاب العبر). إلا أن ابن خلدون قال عن نفسه بعد لقائه الشهير بتيمورلنك، وكان مغولياً بوذياً: «فلما دخلت عليه فتحته بالسلام، وأوميت إيماءة الخضوع، فرفع رأسه، ومد يده فقبلتها، وأشار بالجلوس، فجلست، حيث انتهيت»(كتاب التعريف). ولا يستبعد أن ابن خلدون أعان بهذه الصلة علماء وفقهاء، مثلما أعان الخواجة نصير الدين الطوسي (ت 673هـ) العلماء من قَبل في صلته بهولاكو.

يصعب عليَّ في هذا المقال إيراد كل ما أتى به المؤرخون، وتفاصيل مرافقة صاحب الديوان عطا ملك الجويني لهولاكو، وتكليفه بإدارة العراق (657 ـ681). لكن، وحسب ما ذهب إليه المؤرخ جعفر خصباك (ت 1969): أن غزو المغول للعراق كان أمراً حتمياً، ضمن سيطرتهم على العالم (العراق في عهد المغول الإيلخانيين). وأقول: مَنْ سلم مفاتيح بغداد للبويهيين، وللسلاجقة، ومن بعد للصفويين، والعثمانيين...؟ ألم يظهر بواب خائن؟

صفوة القول: أنه من المخجل أن رواية ضحلة، مثل التي أوردها ابن شاكر الكُتبي (ت 764هـ) ، تفعل فعلها في العقول. قال في عمالة ابن العلقمي للمغول: «أخذ رجلاً وحلق رأسه حلقاً بليغاً، وكتب ما أراد عليه بالإبر...» (فوات الوفيات). والوزير كان يرجح الحل السياسي على الحل العسكري مع مارد إذا جاع وعطش أكل وشرب من دم حصانه! وكسر مئات الممالك والقلاع المحصنة.

والحال، أن من قلة الرأي أن يشار إلى ابن علقمي جديد سَلم مفاتيح بغداد للأمريكان، أو أغراهم بالغزو. مع أن الشاهد، لولا 11 سبتمبر، وتفاقم جيوش القاعدة، وجنون عظمة الحاكم، لانقرض جيل المعارضة ولم تُفتح له بوابات بغداد. عن أي مفاتيح نتحدث! والعبارة لمظفر النواب: «أنتَ تدري.. ضَيعينهَ الباب والمفتاح»!

[email protected]