لبنان: الحل في «مدريد ـ 2» و«طائف ـ 2»

TT

لتبرئة السياسيين اللبنانيين من طريقة تعاملهم مع لبنان، يمكن الادعاء بأن مقولة: «ومن الحب ما قتل» تنطبق عليهم جميعاً من دون استثناء. إذ أن تعاملهم مع «الوطن» لم يسمح ببروز معادلة واحدة يتفق حولها اللبنانيون، كما إن مواقفهم المتشنجة أفرزت قرارات شقت الصف اللبناني، ويدل هذا كله على أن كل مسؤول لبناني إنما يعمل لمصلحته الخاصة وليس لمصلحة وطنه، وعلى هذا تتفق الغالبية من اللبنانيين.

ليس صحيحاً أن كل الشيعة اللبنانيين متفقون على بقاء سلاح «حزب الله» كما انه ليس صحيحاً أن كل اللبنانيين الذين يعارضون توجهات وأهداف «حزب الله» متفقون على ضرورة قيام المحكمة الدولية، وليس هذان الموضوعان فقط موضع خلاف بين اللبنانيين، إنما هما الأبرز، ويأتي بعدهما موضوع العلاقة مع سوريا والوجود الفلسطيني المسلح في المخيمات وخارجها، وانتشار فرق أصولية مسلحة هنا وهناك.

المشاكل الخطيرة التي يعاني منها لبنان هي انعكاس لمشاكل إقليمية معقدة، وخطورتها أنها تغطي على مشاكل وأزمات المواطن اللبناني الذي لم يعد يجد حتى نائباً مجهولاً يهتم بواحد من شؤونه اليومية. كل النواب اللبنانيين ضمن تكتلات سياسية، وكل تكتل «اكبر» من القضايا المعيشية ومشغول «إقليميا»!

يقول لي مصدر لبناني، إن البلد متجه إلى أسوأ مما هو عليه الآن، «إذا لم تكن هناك مدريد ـ2 وطائف ـ2».

و«على أمل» أن يتحقق ذلك، تعيش «الطوائف» اللبنانية حالة من عدم الثقة. وحسب إحصاءات مؤسسة «الدولية للمعلومات»، يلاحظ أن نسبة عالية من أبناء الطائفة المارونية لا تثق بأحد: لا بفرنسا ولا بأميركا ولا بإيران وحكماً لا تثق بسوريا.

ويقول لي جواد عدرا مدير المؤسسة: «تشعر الطائفة المارونية بأنها خُدعت من قبل الجميع، ورغم أن الجنرال ميشال عون لا يزال الرقم واحد في الطائفة المارونية إلا انه خسر من شعبيته لا سيما في الأشهر الثلاثة الماضية بعد مسألة الاعتصام الذي اثر سلباً على الاقتصاد والتجارة في البلد».

أما السنّة، وحسب الإحصاءات، فيقول عدرا: هناك نسبة مرتفعة تقارب ربما 50% ليست مع سعد الحريري، إنما ليست مع أي طرف آخر، قسم منها موزع ما بين عمر كرامي، وسليم الحص ونجيب ميقاتي (رؤساء حكومة سابقون)، والغالبية ليست مع احد».

ونصل إلى الطائفة الشيعية، فأثناء الحرب وبعدها كان هناك شبه إجماع يقارب 80% إلى 90% في تأييد «حزب الله» وبدأ الآن يظهر تراجع في تأييد الشيعة للحزب، واكتُشف ذلك من خلال ارتفاع شعبية نبيه بري رئيس المجلس النيابي ورئيس حركة «أمل» الشيعية، ليس لأن بري تفوق في أمر ما، إنما كي لا يقول الشيعي «انه لا يؤيد حزب الله، يتخذ من نبيه بري غطاء» كما يقول عدرا.

كما يتردد في لبنان أن جماعة «أمل» تبدي انزعاجاً ملحوظاً لأن أفرادها خسروا منازلهم في الحرب الأخيرة إنما لم يحصلوا على تعويضات وزعها «حزب الله».

وحسب الإحصاءات الأخيرة، فان هناك نسبة 42% من الشيعة ترى أن إبقاء سلاح «حزب الله» ضمانة وطنية كي لا تقصف إسرائيل لبنان، و15% مع بقائه حتى إيجاد حل للصراع العربي ـ الإسرائيلي (هؤلاء لا يريدون نزعه) و23% مع بقائه للدفاع عن لبنان بالتنسيق مع الدولة، و11% مع تسليمه بعد تحرير مزارع شبعا والأسرى و5% مع إجراء حوار حول نزعه.

لكن مع الاعتصامات التي دعا إليها «حزب الله» لوحظ انه خسر من وهجه، فبدل أن يقول انه صار أداة تغيير في كل المنطقة، انحصرت مشكلته في ساحات بيروت. والأنظمة التي كان يمكن أن تهددها ظاهرة مثل «حزب الله» مرتاحة الآن. ويُظهر هذا من ناحية أخرى، أن لا كبير واحداً في لبنان، فاللبنانيون كما يبنون بسرعة يدمرون بسرعة أيضا.

وحول نزع سلاح «حزب الله» يقول الدكتور بول سالم مدير «معهد كارنغي للسلام ـ فرع لبنان»، «إن القوة الدفاعية التي يملكها «حزب الله» جيدة لأي دولة وهي جيدة للبنان، لأن قواتنا القتالية محدودة، لكن بعد عام 2000 إثر الانسحاب الإسرائيلي، كان يجب أن يندرج سلاح «حزب الله» تحت إطار الشرعية اللبنانية ويكون قرار الحرب والسلم بيد اللبنانيين الممثلين بدولتهم».

ويرفض الدكتور سالم تأجيل قيام الدولة اللبنانية بانتظار أن نتأكد أين تقع مزارع شبعا: «عندها ما من دولة في العالم تسير إلى الأمام فكل الدول لديها خلافات مع جيرانها حول بعض تفاصيل الحدود، هناك السعودية والكويت، الكويت والعراق، العراق وإيران وإيران وتركيا وهذا أمر طبيعي ولا يمكن أن تتوقف الحياة السياسية والأمنية لبلد بأكمله لأن هناك مشكلة في الخريطة على ارض معينة، فهذه تُدرس وتعالج بطريقة أخرى».

ومن سلاح «حزب الله» إلى المحكمة في قضية اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري.

ويقول لي أحد السياسيين اللبنانيين: «أليس من حدود للبحث عن الحقيقة؟ أنا في بلد لم يجر مصالحة وطنية بعد حرب أودت بحياة 200 ألف إنسان، ونظامي يتفكك ثم يأتون ويطلبون مني أن انشر قوات دولية على الحدود مع سوريا واعقد محكمة دولية، انا لست دولة عظمى». ويقول انه سأل احد الأشخاص: اذا طلبت المحكمة التحقيق مع أمين عام «حزب الله» السيد حسن نصر الله فماذا يحصل؟ فأجابه: «نجري له فيديو ـ كونفرانس»!

ان للمحكمة تعقيداتها الإقليمية وقد تكون أصعب من نزع سلاح «حزب الله»، إذ لا حل وسطاً فيها، إما تنعقد أو لا تنعقد. ويقول الدكتور سالم: «إنها ابيض أو اسود ولو أن البعض يقول، إذا عدّلنا هذه المادة أو تلك نصل إلى الحل الوسط.

عملياً ليس هناك من حل وسط، فعندما تنشأ محكمة وتتلقى تقريراً مطولاً فإما ان تصل المعلومات التي يتضمنها التقرير إلى محكمة ذات طابع دولي أو لن تصل».

ويبدو انه ليس هناك من مخرج لهذه المشكلة. الدكتور سالم «يؤيد قيام المحكمة بالتأكيد» ويضيف، انه في حالة اغتيال رؤساء وزرائنا، وسياسيينا وصحافيينا لا يمكن لدولة تحترم نفسها أو لشعب يحترم نفسه أن يأتي ويقول انه لا يريد التحقيق، لكن يعترف الدكتور سالم بأنها مشكلة، إذ لا يوجد ما يُسمى «قتله قليلاً» والمحكمة ستظهر نتائج قد لا تناسب البعض.

وهذا كما يبدو هو السبب الرئيسي لعدم الوصول إلى تسوية وجرجرة الوضع في لبنان. وإذا كان يمكن إيجاد حل وسط لمشكلة سلاح «حزب الله» بالقول بتأجيل موضوعه مدة سنة، أو إيجاد حل وسط لتشكيل الحكومة عبر التفاوض على عدد وزراء كل طرف، فان لا حل وسطاً للمحكمة. والحل الوحيد إما الغاؤها أو السير بها.

ويقول سالم: «حتى إدخال تعديلات على المواد يعني السير فيها، وليس التعديل هو الحل الوسط، ولا وجود لحكم بـ«السجن قليلاً»، وإذا جرت المحكمة ذات الطابع الدولي وتقدم لها تقرير مطول فالضرر سيصيب الطرف الرافض بغض النظر إذا تم تسليم المتهم لاحقاً للمحكمة أو عدم سجنه، لأن المعلومات الحقيقية ستكشف للرأي العام العالمي، ولا تعود من أهمية للمواقف السياسية». «من هنا، وحتى مع التعديلات فان المحكمة تكون أو لا تكون».

حتى الآن ليس واضحاً ما إذا كان «حزب الله» متخوف مباشرة من المحكمة أو لأن حليفه السوري متخوف منها. إن مصير «حزب الله» مرتبط نوعاً ما بالنظام السوري، خصوصاً أن هناك تحالفاً استراتيجياً بين الطرفين. ولا يريد الحزب وقوع أي أمر يؤذي حليفه. ثم إن أحدا لا يعرف حقيقة ما توصل إليه التحقيق، ويرى الحزب أن المحكمة تقف وراءها الأمم المتحدة التي مقرها نيويورك والاميركيون فاعلون فيها، ويتخوف الحزب من أن يطّلع الأجانب، عبر المحكمة على العديد من الملفات ويقول الدكتور سالم: «انه من دون شك لقيادة «حزب الله» مخاوف عامة من إنشاء محكمة واسعة الصلاحيات وطويلة الأمد. فالمرحلة الأولى ثلاث سنوات والباب مفتوح، وتملك حق التحقيق والسجن وستكون نوعاً من سلطة جديدة في لبنان ولها طابع أجنبي، ولا يرغب «حزب الله»، حسب مفهومه السياسي، في أن يدخل أجهزة استخبارات جديدة عليه».

لقد صار معروفاً أن سوريا لا تريد سماع كلمة «المحكمة»، ونجحت حتى الآن في عدم قيامها عبر حلفائها في لبنان. ويمكن تخيل سيناريوهات لإقناع سوريا بقبول المحكمة احدها شبيه بسيناريو ليبيا ولوكربي، بمعنى أن يجري تحقيق ويتم ايجاد مخرج معين ثم تجري عندها فعلا «محكمة سياسية». ويتردد حالياً في لبنان، انه إذا التزمت سوريا بعدم تكرار عمليات الاغتيال، وإذا اختلف الأداء السوري، وتغيرت سياستها في لبنان، وأخذت مناحي ايجابية، وقدمت دمشق وعوداً تمكن مراقبتها لاحقاً، عندها يمكن الاتفاق على القول: إن الاغتيال وقع، وان المسؤول عنه بعض الأشخاص من الذين تجب محاكمتهم، كما حصل في ليبيا حيث يقبع المتهم المقراحي في احد السجون السكوتلاندية، ثم تبدأ مرحلة جديدة من العلاقات، ويتوقف علاج المشاكل بين لبنان وسوريا بالاغتيالات، بل على الطرفين الجلوس حول طاولة الحوار بمساعدة دول صديقة أو مجاورة وإيجاد صيغة لمصلحة سوريا ولبنان من دون قتل وتهديد مع بناء علاقات على اتفاقات جديدة غير تلك التي تمت زمن الهيمنة السورية على لبنان.

إن لبنان لا يريد شيئاً من سوريا، فيما تبدو سوريا وكأنها تريد كل شيء من لبنان؟

المحكمة استحقاق هزّ لبنان، ولبنان الحالي لا يتحمل كما يبدو محكمة، لكن هل لبنان، كما هو الآن يتناسب مع ما يطمح اللبنانيون في الوصول إليه؟ إن لبنان كشعب وكفكرة ورسالة يتعزز بالمحكمة، لكن لبنان التركيبة الحالية، بصراحة لا يتحمل.