صاحب ضربة الحذاء: نباح على القمر

TT

كيف يمكن أن نفهم سلوك خروشوف في نيويورك، في الأمم المتحدة؟ لا أدري. لكن بعد مضي كل هذه السنين أحاول أن اتخيل الفلاح الأوكراني، عامل المناجم، منظف المداخن، وقد رأى نفسه، أولاً على رأس الاتحاد السوفياتي، والآن هنا، في الجمعية العامة، إلى جانب صف طويل من زعماء الأرض. وها هو يلتقي في جناحه رئيس وزراء بريطانيا هارولد ماكميلان ويقول له، متذمرا من الرئيس الأميركي دوايت ايزنهاور: «اعتقد أنه إذا كان كل الرؤساء مثله، ففي إمكان أميركا أن تنمو وتتطور من دون الحاجة إلى رئيس».

خلال تلك الزيارة الصاعقة استضافه المذيع الشهير ديفيد ساسكند، الذي استخدم في وصفه تعبيرا شعبيا يقول «إنه ينبح على القمر» فغضب خروشوف وقال: «انبح؟ هل هذا كلام مؤدب مقبول في بلادك؟ نحن عندنا هذه وقاحة. ثم انني أيها الشاب في عمر والدك ولا يليق بك أن تخاطبني هكذا. لا أسمح لك بذلك. انني لم آتِ إلى هنا لكي أنبح. أنا هنا بصفتي رئيس مجلس الوزراء في كبرى الدول الاشتراكية في العالم. ولذلك يجب أن تظهر نحوي بعض الاحترام».

رأى نفسه يفقد أعصابه المرة بعد المرة في هذه المدينة الصاخبة. وقد أصابته أصوات دراجات الشرطة بالأرق. وكتب في مذكراته: «عندما يدير هؤلاء دراجاتهم، يبدو الأمر أولا وكأن هناك أناسا يصفقون. ثم صوت إطلاق نار. ثم أصوات مدافع تنفجر تحت نافذتي. كان مستحيلا عليّ أن أنام مهما بلغ بي التعب. وهكذا كنت أمضي الليل صاحيا، أصغي إلى نوبة من الدراجين تذهب ونوبة أخرى تأتي». ويبدو أن جزءا من الضجيج كان متعمداً «كانت السيارات المارة تزمر وتزأر احتجاجاً على وجودنا في أميركا». وقد لاحظ محمد حسنين هيكل التغير في مزاج الزعيم السوفياتي. وقال إن الاجتماعين اللذين عقدهما مع الرئيس عبد الناصر كانا بلا فائدة وامضيا في جدل لا طائل تحته. وبدا بوضوح أن خروشوف كان يتوقع تأييدا أكثر حماسا من قادة عدم الانحياز. وهكذا راح يفرج عن غضبه بإهانة وزير خارجيته. وذات مرة قال للمندوب الروسي فاليريان زورين في حضور اندريه غروميكو: «مَن منكما وزير الخارجية». فأجاب زورين مذهولا: «إنه طبعاً الرفيق غروميكو». فصاح خروشوف: «إطلاقاً. إنه ليس وزيراً للخارجية. إنه قطعة من...».

خلال تلك الرحلة الشهيرة طالب خروشوف بعزل الأمين العام وتحويل الأمانة العامة إلى ترويكا، ونقل مقر الأمم المتحدة إلى بلد محايد كالنمسا أو سويسرا. وكانت الرحلة قد بدأت على نحو سيئ. فقد وصل خروشوف على متن الباخرة «البلطيق» إلى ميناء نيويورك ليجد عمالها مضربين، وتظاهرة نظمها منفيو هنغاريا ترفع اليافطات المعادية. واضطر اعضاء وفده إلى ان يحملوا حقائبهم بأنفسهم، وأن ينزلوا من السفينة في قوارب صغيرة. وكان المشهد مختلفا عما كان عليه في قمة باريس قبل فترة، عندما أصغى قادة العالم بالكثير من الوجل لتحذيرات الراعي الأوكراني. إلى اللقاء.