مؤتمر الرياض العربي والطالباني الكوردي

TT

تصدر للمرة الأولى، في تاريخ السياسة العراقية، الوفد العراقي إلى مؤتمر قمة عربية كورديان: رئيس الجمهورية جلال الطالباني، ووزير خارجيته هوشيار زيباري. كانت هاتان المنزلتان عربيتين بلا منازع، وربما شيد مثل هذا العُرف حاجزاً نفسياً بين الكورد وبغداد. وكانت الذريعة أن المحيط العربي لا يتقبل صلة من خارج جنسه! وهي ذريعة أسقطها مؤتمر القمة الأخير بالرياض. وقبل هذا لم يتعذر وزراء الخارجية العرب بلكنة لسان الوزير زيباري، وهي تبدو أفصح وأوضح من بعض العرب أنفسهم. هذا، مع علمنا أن من أفاضل مدرسي نحو وصرف العربية بالعراق كانوا كورداً وتركماناً وكلداناً ومن آل آشور. وقد يزال العجب إذا علمنا أن الفقيه الشافعي الكوردي عبد الله البيتُوشي (ت نحو 1796) لُقب لتضلعه بالعربية بسيبويه الثاني (الآلوسي، مختصر التحفة). وهو المولود في قرية بيتُوش عند منحدر الزاب الأسفل، والدارس ببغداد! فأين نحن العرب العراقيين من لغة أبناء وطننا!

وعلى العموم، ليس هناك أكثر حفظاً لشعر الجواهري من الطالباني، ومات الشاعر وهو يضع على رأسه غطاءً مهدى منه. وكان كورد العراق سباقين إلى تكريم الشاعر (العام 2000)، وتراه أورد في قصيدته «كوردستان» ما يبرئ بقية العراقيين من نكبات الدولة ضد مواطنيها: «يا ابن الشمال ولستُ مسعر فتنة.. أنا في وداعتي الحَمام وأَنعم». قالها في زمن كانت الدارعات تقصف المكان. وحينها، حسب شاهد عيان، هو الباحث التركماني فوزي عبد الرزاق، أن تحلق طلبة كلية الشريعة بصحن الإمام أبي حنيفة ببغداد حول الرئيس عبد السلام عارف (قُتل 1966)، ولما خاطبه الطالب الكوردي ملا محمود: «يا سيادة الرئيس رحمةً بالكورد»! رد عليه بقسوة التفرد القومي: «إلي يحرك ذيله انقطع رأسه»! والشيء بالشيء يذكر، لما طُلب منه بناية جديدة للكلية المذكورة أجاب الرئيس بالقول: «الفلوس عند العروس، والعروس بالحمام»! انتهت تلك الأيام، وخرجت العروس، وأصبح من الكورد رئيساً!

لا أخفي غبطتي بمشهد استقبال الملك عبد الله بن عبد العزيز وولي عهده رئيس العراق الكوردي، لحضور المؤتمر (19) من مؤتمرات القمة العربية، وهي المرة الأولى قطعاً. إنها خطوة نحو تكريس الوحدة العراقية الصحيحة، والتحرك سوية من صرة العراق بغداد، تلك الوحدة التي ظلت طوال عقود من الزمن مجرد مجاملات، والتي لا نرجو دوامها بثياب المحاصصة، وهي أسوأ وأشنع!

وعلى العموم، إذا ما حاولنا التفتيش عن دولة قومية سواء كانت عربية أو كوردية، خالصة للعرب أو الكورد، لا نجد سوى جغرافيا سكانية، مع اختلافات حادة في المزاجات واللهجات. وقد نجافي الوقائع إذا تحدثنا عن دولة عربية واحدة ممتدة من المحيط إلى الخليج، أو دولة كوردية اجتمع فيها كورد المنطقة جمعاء. فليس لنا اعتبار الدولتين الأموية أو العباسية عربيتين، بقدر ما كانتا دولتين إسلاميتين. لأن الجزء الأكبر منهما يضم بلاد فارس، وما وراء النهر، والهند والسند... الخ. ولا تبدو تسمية مخلفات الدولة العثمانية بالدولة التركية صحيحة، لأنها بلاد ليست خالصة للترك وحدهم!

للأسف، مازال مبرر الدولة القومية عائقاً أمام التعايش بين شعوب الدولة الواحدة، بل منذراً بكوارث اجتماعية، وبفرقة لا سداد لها. إنها أوهام المشاعر التي عمقتها السياسات الشوفينية. وبطبيعة الحال، لا تورث الإبادات والممارسات الشنيعة، التي مارستها السياسات القومية الشوفينية بالمنطقة، إلا التعصب. فسبق الأنفال وحلبجة ترحيل الألوف المؤلفة من كتب التراث الكوردي، بعد جمعها من المراكز والمكتبات، إلى معمل الورق، وفي الوقت نفسه لم ينج أي تراث يتعارض مع مفهوم تلك السياسات، سواء كان كوردياً أو عربياً أو بأي لغة أخرى، إنها سياسة التدمير الشامل. هذا ما ذكره لي، والدموع تلتمع في مقلتيه، المؤرخ الكوردي المعروف كمال مظهر أحمد، مع أنه لم يهجر صومعته العلمية، ولا أجيال طلبته بجامعة بغداد حتى هذه اللحظة.

ربما لا يرضى الكثيرون، كورداً وعرباً، من المتلبسين بوهم الدولة القومية لا الوطن المتعدد، قولة ان ما بين العراق وكوردستانه هو ذاته ما بين جلال الطالباني ومحمد مهدي الجواهري. أقولها ليست قدحة عاطفة تجاه وحدة العراق، أو قلقاً من بقائه بلا رأس إذا ما انفصلت عنه جباله، بل اتكئ على تاريخ طويل من التعايش الجغرافي والاجتماعي والسياسي ما بين أربل (أربيل) وبغداد، سوى ما كان من عهد بابل حيث اسم أربيل (أربلو) الأربعة آلهة، وبيت عشتار هناك، أو في العهد العباسي ثم المغولي. وبطبيعة الحال، أرجو أن لا يفهمني أحد بأني أخفي في داخلي هيمنةً أو استلاب حقوق أحد: اللغة، التقاليد، والسياسة، وأعني الفدرالية.

لا أجد بديلاً من تعميق الهوية العراقية، وما سواها الانتحار بعينه، والعرضة لمطامع الكبار والصغار، فإذا ما تحصن العراق ـ الكل ـ تحصنت الأجزاء، وآمنت من خوف وأطعمت من جوع. تظل بغداد أقرب من حبل الوريد، لشمال وجنوب، ومنها يرد على مَن يهدد الجبال بعاصفة، إن هبت، والعراق متشرذم، لن تبقي ولن تذر، ومنها يُرد على مَنْ يريد جعل البصرة بشطها وأهوارها طوعاً لعمامة الولي الفقيه من جهة الشرق.

وسط ما دار ويدور من لغط حول العلم العراقي واستفتاء كركوك سألت شاباً كوردياً ربطني به نسب الغربة المشترك وسببها الواحد: من أين؟ قال: من كوردستان! قلت: من أي البلاد؟ كرر: من كوردستان؟ قلت له إذا سألتني فأنا من العراق، ورئيسه جلال الطالباني! وأنت مَنْ هو رئيس بلادك؟ قال: الطالباني! عندها حدق في عيني وضحكنا معاً لمفارقة أن تفرقنا السياسات بنكباتها، ويجمعنا المنطق الأرسطي بحسبةٍ بسيطة.