مرافعة المحامي توني بلير الأخيرة

TT

عقب إلقاء توني بلير، رئيس وزراء بريطانيا لـ47 يوما قادما مرافعته الأخيرة الخميس، بدا كمن انزاح عن كاهله عبء ثقيل وهو يقود امة عظيمة في وقت تتعرض فيه الحضارة الديموقراطية الليبرالية، والجنس البشري، لأخطار بقائية من ارهاب مجهول الغاية، و زعماء مخبولين بأسلحة نووية، وتهديدات الإنسان للبيئة.

تلقى ظهر بلير الطعنات من حزبه، خاصة جاره في رقم 11 داوننغ ستريت، وزير المالية غوردون براون بتسريب مساعديه السلبيات لنا معشر الصحفيين، العدو الأول للحكام).

مرافعة المحامي بلير الأخيرة كانت عن مبادئه، متجنبا ذكر إنجازات حكومته، بدليل اختيار المكان، دائرته الانتخابية سييدجفيلد، مستعرضا للعالم ارتباطه بالجذور المحلية التي بدأ منها رحلة تطوير العمال، من حزب آيديولوجي فقد ثقة الطبقة المتوسطة في استئمانه على مصالحها. نحر بلير بقرات مقدسة كإلغاء بند الالتزام بتأميم الصناعات من دستور الحزب وتحريره من سيطرة الاتحادات العمالية، فانتخبته الأغلبية ثلاثة دورات متعاقبة.

بلير محام لبق يجادل بالقانون، لكنه خطيب من الدرجة الاولى يكسب حب الناس العاديين من دون صراخ عاطفي ديماغوغي، مثل تعبيره عن مشاعر الملايين بوصفه دايانا، اميرة ويلز السابقة، بـ«أميرة الشعب» يوم موتها.

اختياره للزمان، 27 يونيو، لإعادة أختام الحكم لجلالة الملكة، يصادف الأربعاء، يوم مساءلة رئيس الوزراء أمام مجلس العموم، فتكون آخر منازلة كلامية له ضد زعماء المعارضة، لتحتفظ الذاكرة البرلمانية بصورته كواحد من أكثر الزعماء بلاغة وسرعة بديهة في المشهد الأسبوعي الفريد بين برلمانات العالم.

أضاف بلير في خطبة الوداع، بعدا إنسانيا على المنصب الذي يجد صاحبه نفسه أحيانا «وحده مع غرائزه ونواياه وضميره» لحظة الوحدة عشية اتخاذ قرار قد يعني حياة أو موتا، كقرار الحرب، أو ربما زلة لسان تؤدي لتدهور البورصة وانهيار العملة وخراب بيوت الناس. فعصا التاريخ لا تكف عن إلهاب ظهر الزعيم، حتى بعد دخوله القبر بعقود.

سياسة بلير الخارجية هي محل الجدل، فقد تكرر خوض قوات البلاد الحرب في فترة حكمه أكثر من عهد أي رئيس وزراء سبقه. وأصبح العراق الطلاء المفضل لريشات المعلقين لرسم صورة بلير الأخيرة في 10 داوننغ ستريت، حيث تقع فوقها ظلال تحالفه مع الرئيس الأمريكي جورج بوش (الذي يكرهه 80% من البريطانيين).

قول بلير الخميس: «أشكر الشعب كصاحب الفضل في كل الإنجازات التي حققتها، وأعتذر للشعب عن أية أخطاء ارتكبتها، لكنني اتخذت القرارت وقتها عن اقتناع مبدئي بصحتها وبأنها في مصلحة الأمة»، هو اقرب شيء للاعتذار عن أخطاء الأمريكيين في العراق.

تكرار بلير لالتزامه بمبدئية اتخاذ القرار تدفع للاعتقاد باحتمال قرائته يوميا تعاليم فلسفة توماس الأكويني التي تضع المبدأ في مرتبة الدين، لتقوية عقيدته برسم السياسة على قاعدة مبدئية أخلاقية.

، في السياسة الخارجية في Blair Doctrine أعلن بلير مبدأه محاضرته في نادي شيكاغو الاقتصادي في ابريل 1999، وكان التطبيق العملي التدخل في كوسوفو بعد أسابيع قليلة بواجب المجتمع الدولي للتدخل الاستباقي لأسباب إنسانية.

أراد بلير، بفلسفة اكوينية مبدئية، أن تصبح بريطانيا قوة خير في العالم، سواء في البلقان، أو الشرق الأوسط، أو افريقيا. وكانت السيدة ثاتشر رأت ان استعادة بريطانيا لعظمتها بعد غروب الشمس يمر عبر بوابة حماية الشرعية الدولية ـ كدورها المحوري في تحرير الكويت عندما تخبط جورج بوش الأب مترددا.

سيرى المؤرخون، في حينه، أن كوسوفو ذهبت ابعد من مجرد التدخل الدولي لإنقاذ أهلها (المسلمين) من تطهير عرقي وشيك.

كان بلير مشمئزا من «الجبن الأخلاقي» لحكومة جون ميجور المحافظة في منتصف التسعينات، لعدم تدخلها لوقف التطهير العرقي الدموي في البوسنة ورواندا، (وكانت ثاتشر عبرت عن الشعور نفسه تجاه حكومة خليفتها).

أراد بلير في بداية ولايته، الاندماج الكامل في أوروبا بعملة موحدة، الا انه اكتشف مدى حكمة ثاتشر التي حذرته من حماقة الاعتماد على أوروبا ومن طعنات المحور الفرنسي الألماني في ظهر بريطانيا، وعرقلة بيروقراطية بروكسيل لأية مشاريع فعالة، ونبهته الى الضرورة التاريخية لإبقاء أمريكا الحليف الأول للأمن القومي البريطاني والأمن العالمي، ولا يمكن إنجاز أي مهمة دولية من دون امريكا. وهو ما تنبه اليه الفرنسيون أخيرا، باختيارهم نيكولاس ساركوزي، الذي يميل للتقارب مع المحور الانغلوساكسوني، بدلا من رويال المعادية لأمريكا.

وعندما لم يتحمس الاتحاد الأوروبي لمبادرة بلير للتدخل في البلقان، لإنقاذ كوسوفو استخدم بلير مهارته كمحام ليجد في القانون الدولي وميثاقي الأمم المتحدة والناتو ما يبرر التدخل الإنساني من دون الرجوع لمجلس الأمن. فإجبار سلوبودان ميلوسوفيتش على الانسحاب من كوسوفو ما كان ليتم بدون العسكرية الأمريكية بفضل تقارب بلير مع الرئيس بيل كلينتون.

قيادة بريطانيا للناتو في كوسوفو تجنبت مواجهة دولية عندما حول الروس قواتهم لحفظ السلام من البوسنة الى كوسوفو لاحتلال مطار بريشتينا، ولولا حكمة رئيس الأركان البريطاني الجنرال السير مايك جاكسون لحدثت مواجهة بين الناتو والروس.

كان نجاح مبدأ بلير في كوسوفو «بروفة» وسابقة للتدخل العسكري المباشر تحت مظلة القانون الدولي لدعم الشرعية الديموقراطية في سيراليون بغرب أفريقيا.

ولا بد من النظر عبر منظور المبدئية الأكوينية في خيار بلير الوقوف مع امريكا بعد تعرضها لعدوان القاعدة والعصابات الإرهابية في سبتمبر 2001 الى جانب المصلحة القومية لبريطانيا في دعم الحليف الأول في ساعة الشدة.

وأثبتت الأيام صحة شكوك ثاتشر في أوروبا في الحرب على الإرهاب، والتي بدأت بتحرير شعب أفغانستان من بطش الطالبان، وحرب إسقاط صدام حسين في العراق.

صحيح أن الأخطاء الأمريكية في إدارة العراق، أتت بنتائج مأساوية باهظة التكاليف للإنسانية، لكن هناك أيضا مسؤولية يتحملها من عرقلت سلبيته العمل الايجابي.

وكانت المخابرات البريطانية اكتشفت في نهاية 2002 ان الرئيس جاك شيراك أمر سفيره في نيويورك باستخدام الفيتو ضد مشروع قرار كانت لندن تعده لمجلس الأمن لإزاحة الديكتاتور العراقي السابق بمشاركة دولية مع أغلبية العراقيين. واضطر بلير وبوش للاكتفاء بإنذار صدام تحت القرارات السابقة فقط بسبب الموقف الفرنسي. الإعلام اليساري، حتى الآن، يتغاضى عن مسؤولية الرئيس شيراك غير المباشرة في ما حدث في العراق. وتحديد بلير لتوقيت خروجه من 10 داوننغ ستريت، الى ما بعد نهاية رئاسة شيراك، ملاحظة لم تفت المؤرخين.

فالقول بمسؤولية بلير في فتح الباب للقاعدة في العراق بإسقاط صدام، يناقض انتقاد المبدأ الأمريكي القديم بالتسامح مع ديكتاتوريات تنكل بشعوبها مقابل الاستقرار الاقليمي. فهل «الاستقرار» الذي فرضه الطالبان في أفغانستان، وصدام في العراق، هو ما يريده منتقدو بلير للعراقيين والأفغان؟

بلير، اختتم خطبة وداعه بقوله انه ربما يكون قد اخطأ، مرجعا الأمر لحكم الشعب في النهاية، لكن المرافعة الأخيرة لا شك كانت من أفضل نجاحات المحامي بلير رغم اختلاف المحلفين على تعريف القضية أصلا.