أمن الدولة وأمن المواطن

TT

مع عولمة العنف الديني، وتحويله الإرهاب الفردي إلى ارهاب جماعي ضد المجتمع المدني، أصبح الأمن من المفردات اللغوية التي دخلت القاموس السياسي بلغات العالم أجمع. لكن تعريف الأمن ما زال ملتبسا على الفكر السياسي، بسبب اختلاف الرؤى حول العنف: متى يكون مقاومة مشروعة، ومتى يكون ارهابا غير مشروع؟

اذا كان لي أن أُعرِّف الأمن بلغة بسيطة محايدة، أقول انه طمأنينة المواطن على الحياة والمُلْك والعدل والحرية. هذه الطمأنينة يجب ان توفرها الدولة بموجب العقد الطبيعي مع المجتمع. فهي مكلفة بحماية أمنه من كل عنف وارهاب غير مشروعين، في مقابل قبوله بعنفها المشروع الضروري، نظريا، لفرض سلطة القانون واستتباب السلام المدني.

من هذه العلاقة الحميمة بين الدولة والمجتمع والمواطن، يترابط ويتداخل بشكل وثيق أمنها مع أمنه. ويلعب شكل الدولة دورا كبيرا في تعميق أو فسخ العلاقة الأمنية بين هذه الأطراف المتعاقدة. الدولة الأبوية تفرض عرفا وتقليدا للأمن وطاعة رعاياها و«أبنائها» المواطنين. الدولة الدينية تفرض الأمن بحكم كونها ممثلة لـ«الشرع الإلهي» في الأرض. الدولة الحديثة ترعى أمن المجتمع بتطبيق قانون العدالة الوضعي.

في النصف الثاني من القرن الماضي، نشأ تناقض في مفهوم الدولة بين الرؤية الغربية والرؤية العربية. ذهبت الماركسية الى حل الدولة كهدف نهائي للشيوعية. الرأسمالية الديمقراطية سعت الى تقليص دور الدولة وسلطتها. مع شيوع الليبرالية الاقتصادية، أسندت الرأسمالية إلى السوق والبورصات مهمة إدارة الاقتصاد، وحرمت الدولة من التدخل، وقصرت دورها في الأمن الاقتصادي على الرقابة الواهية، إلى درجة حدت بالرئيس ريغان إلى القول: «الدولة ليست الحل. الدولة هي المشكلة».

في الواقع، لم تكن الدولة مشكلة كأداء في العالم الغربي، لأن الديمقراطية فرضت رقابة صارمة على ممارسة الدولة للسلطة. في العالم العربي، حدث العكس تماما. بعد الاستقلال في الأربعينات والخمسينات، تضخم دور الدولة العربية في المجتمع والسياسة والاقتصاد، بحكم الانقلابات العسكرية والآيديولوجيات القومية والماركسية المتدخلة في المجالات الثلاثة الحيوية.

منذ السبعينات، حدثت هوة شاسعة بين أمن الدولة وأمن المواطن العربي. السبب ابتلاع النظام الجمهوري الجديد للدولة. أصبح هذا النظام وصائيا على المجتمع والشعب. «الرئيس القائد» هو «سيد الوطن»، وهو الأب «الحاني»، وهو الأب المقيِّد والمغيِّب لأمن المواطن وحريته. «الحزب الأوحد» ألغى السياسة، وفرض عبادة الشخصية وسلطة الفئة الحاكمة، سواء كانت عشيرة أو طائفة أو أقلية مستغلة.

لماذا حدث هذا التناقض بين أمن النظام وأمن المواطن؟ لماذا تداخلت حدود الأمن مع حدود الحرية؟ لأن القوى الدينية التي رعاها النظام السبعيني كمتراس آمن له، تسيست بعد هزيمة غريمتها القوى القومية واليسارية في المواجهة العسكرية والأمنية مع المشروع الصهيوني الاستيطاني.

ثم دخلت القوى الدينية المتسيسة في عداوة أمنية وسياسية مع النظام العربي، بل اغتالت السادات أكبر رموزه، متنكرة لجميله في رعايتها وتنميتها. غير أن المواجهة «الحربية» بينها وبين أمن النظام تأجلت في الثمانينات، لأن أميركا شهرت «السيف الديني» الإسلامي والمسيحي، لقلب نظام «الكفر الشيوعي» المسيطر من أفغانستان إلى بولندا مرورا بآسيا الوسطى.

حقق النظام العربي في التسعينات نصرا أمنيا بارزا على تنظيمات الإسلام «الجهادي» العائدة منتشية بالنصر في أفغانستان، وفي مخيلتها أنها قادرة على تهديد الأمن الرسمي وتأديب «جاهلية» المجتمع العربي. غير أن تدمير النظام لأمن تنظيمات «القاعدة»، لم يصل إلى نسف مرتكزاتها الفكرية والنظرية المنغلقة، لأنه لم يسمح بمناقشة إعلامية علنية لأسس الاجتهاد الحربي في القرون الوسطى.

كان أمن المواطن العربي هو ضحية هذا الصراع الدموي بين أمن النظام وأمن التنظيم. في مواجهة العنف الديني، تضخمت الأجهزة الأمنية والرقابية. أصبح المواطن متهما الى أن تثبت إدانته أمام محاكم أمن الدولة وقوانين الأحكام العرفية والطوارئ المطبقة منذ أكثر من أربعين سنة.

انهارت الطمأنينة على المُلْك والعدل والحرية. أصبح لهذه الأجهزة «الحق» في اقتحام المسكن. انعدام الفصل بين السلطات جعل القضاء سلطة مسخرة لخدمة أمن النظام في ملاحقة المعارضين، بل باتت الأجهزة تملك «حق» التصفية الجسدية للمعارضين عبر الحدود، حيث للنظام نفوذ سياسي أو امتداد عسكري.

حتى في الغرب، أصبح المجتمع، وخصوصا الأميركي، ضحية للإجراءات والقوانين التعسفية التي فرضت لمواجهة الإرهاب الديني. قلبت الغارة على مركز التجارة العالمي في نيويورك مفاهيم الأمن والحرية في العالم بأسره. أعادت إدارة بوش الاعتبار للدولة الـ«بيغ بوس». كان التناقض كبيرا بين إجراءات الأمن التعسفية التي فرضتها الإدارة على الأميركيين، ونصائح نائبه ديك تشيني للنظام العربي بقبول التغيير الديمقراطي. لو انتصر بوش في العراق لقلب النظام العربي، وأودى بأمن المجتمع العربي إلى جحيم «الفوضى الخلاقة» التي بشرت بها آيديولوجيا «المحافظين الجدد».

وهكذا، نجح التنظيم القاعدي أيضا في جلب الكوارث والمآسي والاحتلال الأجنبي على أمن المجتمع الإسلامي (أفغانستان) والعربي (العراق)، فيما دمرت تنظيماته الأخطبوطية اللحمة الاجتماعية والسلام المدني في أكثر من بلد عربي. المرجعية الاخوانية تدعو الغرب لإحلالها محل النظام العربي، وكبديل إيماني متسامح ومعتدل للإسلام الجهادي المتزمت، متناسية كونها المسؤولة الأولى عن تفريخ التنظيمات المتزمتة التي انطلقت من الرحم الاخواني.

والآن، كيف يمكن فض الاشتباك بين أمن الدولة وأمن المجتمع؟ كيف يمكن مكافحة الإرهاب والعنف الديني، من دون التضييق على أمن المواطن، ومن دون الإلغاء المطلق لحريته؟

الحل متعدد الوجوه والأشكال. المشكلة في انعدام الثقة بين الدولة والمجتمع. لا النظام يؤمن بأن قوى المجتمع تملك الوعي بالمسؤولية السياسية والوطنية، وهو في الوقت ذاته خائف من المحاسبة الشعبية على ماضيه في استخدام الأجهزة الأمنية ضد أمن المجتمع. ولا المجتمع مكترث كثيرا بتقديم قيم الحرية والديمقراطية على قيم سلامه المدني. وهو عندما يرى ما يحدث في العراق، يرى في النظام الرسمي حاميا لأمنه من أن تغتاله التنظيمات الدموية التكفيرية، وحارسا لسلامه المدني من أن تقوضه الميليشيات الطائفية المتسيسة والمسلحة في العراق ولبنان.

قدمت قمة الرياض حلا متكاملا لحماية أمن المجتمع العربي وسلامه: إحياء الانتماء العربي والهوية القومية الأرحب، كبديل للانتماءات المذهبية والطائفية الأضيق. يبدو النظام العربي من خلال هذه القمة أقرب الى القبول بمغامرة قلب مناهج التلقين في التعليم، لتربية الأجيال الجديدة على ديمقراطية الحوار والبحث والنقد البناء لا المدمر.

التربية الديمقراطية التي تأخذ وقتا أفضل من الإقدام على تجربة الديمقراطية «الفورية» لخطرها على أمن النظام والمجتمع والمواطن الفرد. أوصل الاستفتاء الحر نسبيا قوى دينية وطائفية متسيسة ومتعصبة إلى المجالس النيابية في مصر ولبنان والبحرين والكويت والعراق، قوى معادية لحرية السياسة والفكر والثقافة وللديمقراطية أيضا. أليس من الطرافة أن يبدو النظام العربي أكثر انفتاحا وتسامحا من هذه القوى المُنْتَخَبة شعبيا؟

ليس الخطر في إسدال الحجاب الشرعي على الرأس والوجه، إنما الخطر كل الخطر على الأمن الاجتماعي في إسدال الحجاب على العقل العربي، إمعاناً في غسل دماغه بأوهام الحلول الجاهزة، وتلويث بيئته بغيوم العداء للعصر وعزله عن المشاركة في بناء الحضارة الإنسانية.